السيد الذي أراد أن تكون شهادته الدرس الأخير لمحبّيه
"غداً يتعلّم الملايين من الحسين عليه السلام كيف يثبت القائد في ساحة المعركة، فلا يختبئ ولا يفرّ ولا ينهزم".
بهذه الكلمات الممهورة بروح كربلاء، اعتاد الشهيد السيد "حسن نصر الله" أن يخاطب الجماهير في كل عام، في ليلة العاشر من محرّم.
لم تكن عباراته مجرّد شعارات تزيّن المناسبات، بل كانت عقيدة راسخة يؤمن بها ويجسّدها قولاً وفعلاً. فقد أراد أن يعلّم الناس أنّ مكان القائد الطبيعي هو في قلب الميدان، على خط المواجهة الأوّل، حيث تدور رحى المعركة وتُرسم ملامح المصير. هناك، وسط النيران والعواصف، يُدار القرار وتُحسم الخيارات، مهما كانت التضحيات، ومهما عظمت الأخطار.
ومنذ أكثر من عام، لم يغب عن أذهان كثير من محبّيه ذلك التساؤل الممزوج بالألم: "لو أنّ السيد لجأ إلى مكان أكثر أمناً، أكان بقي بيننا؟" لقد كانوا يعلمون، وهو قبلهم، أنّه كان في مرمى استهداف دائم من قبل العدو الإسرائيلي، غير أنّ الإجابة الواضحة تكمن في مسيرته كلّها:" أيكون وفياً لمبادئه إن انسحب إلى الظلّ، أو تراجع إلى الأمان، تاركاً رجاله في ساحة النار؟ أكان يرضى لنفسه أن يطالب الجماهير بالتضحية، فيما يتوارى هو عن الأخطار؟"
لقد كان هو نفسه ذلك القائد الذي اعتلى المنصّة في الثاني والعشرين من أيلول عام 2006، بعد أيام الانتصار الكبير، ليقول لجماهير المقاومة: "أنا أقف أمامكم وبينكم فيه مخاطرة عليكم وعليّ، وكان هناك خيارات أخرى، لكنّ قلبي وعقلي وروحي لم تأذن لي أن أخاطبكم من بعيد ولا عبر شاشة". إنّها الروح ذاتها التي حكمت خياره الأخير، يوم أصرّ على أن يظلّ في موقع القيادة، يقود المعركة ويشرف على خططها، عالماً يقيناً بأنّ هذا الخيار هو طريقه إلى الشهادة.
لقد أراد السيد الشهيد، حتى في لحظة استشهاده، أن يترك لمحبّيه درساً أخيراً، درساً عملياً لا يحتاج إلى تفسير. أراد أن يقول لهم أنّ القائد الحقّ لا يفارق الميدان، ولا يساوم على مكانه الطبيعي في صفوف المجاهدين. وأراد أن يربط شهادته بأولى كلماته يوم تولّى القيادة، حين أعلن بوضوح لا لبس فيه: "هذه المسيرة سنكملها، حتى لو استشهدنا جميعاً".
وهكذا، غدا استشهاده خاتمة متألّقة لمسيرة كلّها وفاء، وتحوّل حضوره الأخير إلى بيان حيّ يدرّس في مدارس المقاومة (أنّ الدم إذا امتزج بالموقف، أصبح أبلغ من أي خطاب، وأقوى من أي سلاح).