تصريح برّاك "الحيواني" سياسةٌ لا هفوة


بتول الغداف*

في منتصف القرن السادس عشر، اجتمع رجال الكنيسة والسياسة في قاعة في قشتالة الإسبانية ليتناقشوا في سؤال بدا حينها لاهوتيًا، لكنه في جوهره سؤال وجودي: هل الشعب الأسمر من البشر حقًا؟ يومها وقف بارتولومي دي لاس كاساس ليؤكد أنهم عقلاء، ذوو أرواح كاملة مثل الأوروبيين. في المقابل، أصرّ خوان خينيس دي سيبولفيدا على أنهم "عبيد طبيعيون"، خُلقوا ليُقادوا بالقوة ويُستعبدوا باسم الحضارة. منذ تلك اللحظة، ترسّخ في المخيال الغربي سؤال لم يُمحَ بعد: أيّ شعوب تستحق أن تُعامل كـ"بشر"، وأيّها تُختزل إلى كائنات أدنى، يجوز سحقها بلا ذنب؟


خمسة قرون مرّت، وما زالت أصداء ذلك النقاش تتردّد في حاضرنا. قبل أيام، وقف الأميركي توماس برّاك في بيروت، في القصر الجمهوري، وأطلق على الصحافيين وصف تصرفهم بـ"الحيواني". كلمة واحدة أعادت كشف قرون من الاستعلاء الاستعماري، حيث تُختزل شعوب كاملة في صورة حيوانية تُبرّر إذلالهم. وفي السياق نفسه، خرج رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير بعد لقائه دونالد ترامب، متحدثًا ببرود عن "تحطيم إسرائيل لرقم قياسي جديد في القتل في غزّة". هكذا، يتحوّل الموت إلى سباق رياضي، إلى أرقام في دفتر، بلا أسماء، بلا وجوه، ما دام الميت عربيّ.


هذان التصريحان ليسا تفكيرًا فرديًا، بل انعكاس لبنية عميقة في العقل الغربي الاستعماري. يشرحه مطولا ألبير ممّي في كتابه الشهير المستعمِر والمستعمَر فيقول أن للمستعمر حاجة المستعمِر إلى أن يُنقص من إنسانية المستعمَر كي يبرّر استغلاله له. المستعمِر، حسب ممّي، لا يستطيع أن ينام مرتاح الضمير إلا إذا اقتنع أن ضحيته ليست مساوية له، وأن قهرها ليس جريمة بل "ضرورة حضارية". فيتحوّل السطو إلى "تطوير"، وتتحوّل المجزرة إلى "تأديب". آلية التبرير متواصلة، لا تبدأ ولا تنتهي. فالاستعمار ليس مجرد ممارسة عنف، بل هو بناء معرفي–أخلاقي كامل يجعل من القمع واجبًا ومن الاستغلال حتميّة.


والخطير هنا، أن هذه البنية تنتج صورة ثابتة في المخيال الغربي: المستعمَر لا يُرى كذات مستقلة لها عقل وإرادة، بل كطفل قاصر يحتاج إلى الوصاية، أو ككائن متوحش يحتاج إلى التهذيب، أو كحيوان يمكن التعامل معه بالعصا والجزرة. هنا يصبح "الحيوان" وصفًا طبيعيًا، وتصبح "المجزرة" رقمًا عاديًا. فاللغة نفسها التي يستخدمها المستعمِر ليست عبثية، بل جزء من هذه المنظومة: كل كلمة تقال تُعيد إنتاج الهرمية ذاتها، وتُبقي المستعمَر في خانة "الآخر الأدنى".


من هنا، لا غرابة أن يستخدم برّاك "الحيوانية" في وصفه، أو أن يُختزل الفلسطيني إلى رقم إحصائي. كما قلنا، هذه ليست زلّات لسان؛ إنها اللغة الطبيعية للهيمنة. فالاستعمار لم يكن يومًا مشروعًا اقتصاديًا أو عسكريًا فحسب، بل مشروعًا معرفيًا وأخلاقيًا يحدّد من هو "الإنسان الكامل" ومن هو "الآخر الأدنى".
فرانز فانون يضيف بُعدًا آخر: المستعمِر يبني ذاته عبر تحطيم الآخر. "لا وجود للرجل الأبيض إلا بقدر ما يدمّر الإنسان المستعمَر." لهذا، فكل توصيف حيواني، وكل تحويل للموت إلى رقم، ليس تفصيلًا عرضيًا بل شرطًا لاستمرارية النظام الاستعماري. أما إيمي سيزار فقد لخّص الأمر حين قال إن جريمة هتلر الكبرى في نظر الأوروبيين لم تكن في فعله بحد ذاته، بل في أنه عامل الأوروبي كما تُعامل الشعوب المستعمَرة. ما كان مقبولًا ضد الأفريقي أو العربي صار جريمة لا تُغتفر حين وُجّه ضد الأبيض.


اليوم، حين نسمع تصريحات برّاك وبلير، فنحن في الحقيقة نرى استمرارًا لذلك التاريخ الطويل: من بلد الوليد في 1550، إلى غزّة في 2024. اللغة تغيّرت، لكن المضمون ثابت: هناك شعوب يراها المستعمِر كائنات ناقصة، يجوز محوها أو تحويلها إلى إحصاءات.


لكن المشكلة أنني أستطيع أن أقتبس مئات الصفحات من ممي وفانون وسيزار، وأُثبت عبر التاريخ أن المستعمِر لم ينظر إلينا يومًا كأنداد له. ومع ذلك، سيظلّ هذا بلا قيمة إن لم نستوعب نحن، بوعي جمعي، هذه الحقيقة. الاستعمار لا يرانا أندادًا له. وإذا لم نؤمن أنه ينفي إنسانيتنا ونجعل هذه الحقيقة بوصلة لفهمنا فسنظل نخوض معاركنا وكأن الطرف الآخر يعترف بكرامتنا، وسنُخدع في كل مرة. أما إذا أيقنّا أن ما نواجهه ليس سوء فهم بل إنكار وجودي، فسنفهم أن المقاومة ليست فقط حقًا، بل شرط البقاء.


*ماجستير في الشؤون الدولية، باحثة في مجال الاستعمار ومناهضة الاستعمار