جريمة "البيجر" في لبنان: صدمة جماعية أم مرآة الإنسانيّة المفقودة
بقلم: عبّاس صبحي حدرج *
تشكّل الصّدمات المجتمعيّة مسارًا طبيعيًّا في حياة الشّعوب، فهي ليست أحداثًا عابرة تُطوى مع الزّمن، بل لحظات فارقة تعيد صياغة الذّاكرة الجمعيّة وتترك بصماتها على وجدان الأفراد والجماعات. فالمجتمعات لا تُبنى فقط بالانتصارات، بل أيضًا بما تواجهه من أزمات ومجازر وهزائم، إذ تكشف هذه اللّحظات عن طبيعة بنيتها الدّاخليّة، وعن مدى قدرتها على الصّمود أو الانكسار.
في السّياق العربي، تعاقبت الصّدمات منذ النّكبة عام 1948 مرورًا بالنّكسة وحروب لبنان وفلسطين. هذه المحطّات صنعت ذاكرة مثقلة بالألم، لكنّها شكّلت أيضًا محفّزًا للهويّة والمقاومة. وفي قلب هذا المسار جاءت جريمة "البيجر" في لبنان لتفتح جرحًا جديدًا، لكن بأسلوب مختلف: لم تكن صدمة ناتجة عن سلاح ظاهر، بل عن أداة تكنولوجيّة صغيرة كان يُفترض أن تخدم الحياة اليوميّة. إنّها مفارقة قاسية: وسيلة تواصل تتحوّل إلى أداة موت، لتكشف عن عمق الأزمة النّفسيّة–الاجتماعيّة وعن حجم الانحطاط القيمي في زمن الذّكاء الاصطناعي وفيزياء النّانو.
الصّدمة كجزء من مسار المجتمعات
منذ فجر التّاريخ، ارتبطت حياة الشّعوب بصدمات كبرى، طبيعيّة كانت أو من صنع الإنسان. والصّدمة ليست مجرّد مأساة، بل قوّة تغيير جذريّة تعيد صياغة رؤية النّاس لأنفسهم وللعالم. فبينما تؤدّي الصّدمات الفرديّة إلى انهيار داخلي أو علاج خاصّ، تنعكس الصّدمات الجماعيّة على الهويّة المشتركة للمجتمع، وتعيد تشكيل شبكات التّضامن أو العداء.
المجتمعات المتماسكة تحوّل الصّدمة إلى قوّة دفع، فيما المجتمعات الهشّة تنزلق إلى التّفكّك والاتّهامات المتبادلة. ولبنان مثال مركّب: بلد متنوّع طائفيًّا وسياسيًّا، يتأرجح دائمًا بين لحظات تضامن وطني نادرة، ولحظات انقسام عميق. وهكذا، تصبح جريمة "البيجر" اختبارًا جديدًا لطبيعة المجتمع اللّبناني وقدرته على التّماسك.
الذّاكرة الجمعيّة وتعدّد الرّوايات
الصّدمات حين تدخل الذّاكرة الجمعيّة لا تبقى مجرّد وقائع، بل تتحوّل إلى مراجع تأسيسيّة للوعي الجمعي. يتمّ ذلك عبر الطّقوس الجماعيّة، والرّموز والصّور، والسّرديّات الإعلاميّة، والتّناقل الشّفهي. لكن في لبنان، غالبًا ما تُرسَّخ الصّدمات داخل ذاكرة طائفيّة خاصّة، بدل أن تتحوّل إلى ذاكرة وطنيّة مشتركة.
من هنا، تبدو جريمة "البيجر" مرشّحة للدّخول بقوّة في الذّاكرة الشّيعيّة، حيث ستُقرأ ضمن خطّ تاريخي ممتدّ من المظلوميّة والمقاومة. لكنّها أيضًا ستترك بصماتها في الذّاكرة اللّبنانيّة الأوسع، وإن بقراءات متباينة ومتعارضة.
ديناميّة التّفاعل والانقسام
الحدث لم يُستقبل بردّ فعل واحد. فقد عبّر كثيرون عن صدمتهم وتعاطفهم مع الضّحايا باعتبارها مأساة إنسانيّة، بينما برزت في المقابل أصوات شامتة رأت فيها عقابًا أو فرصة للتّشفّي. هذا التّباين يعكس أزمة القيم المشتركة في لبنان، حيث يغدو الدّم مادّة للاستقطاب السّياسي بدل أن يكون موضع إجماع إنساني.
وفق نظريّة الهويّة الاجتماعيّة، يُظهر هذا الانقسام كيف تعزّز الصّدمات الحدود بين الجماعات بدل أن تذيبها. فالتّعاطف يرتبط بالقدرة على التّماهي الإنساني، بينما الشّماتة تعكس آليّات دفاعيّة مبنيّة على ثنائيّة "نحن" و"هم". لكن خطورة الأمر أنّ مثل هذه المواقف تترك ندوبًا طويلة الأمد، إذ تُضاف ذاكرة الشّماتة إلى ذاكرة الجريمة نفسها، ما يعمّق الشّرخ الاجتماعي ويجعل المصالحة أصعب.
الخصوصيّة النّفسيّة–الاجتماعيّة للبيئة الشّيعيّة
البيئة الشّيعيّة في لبنان تمتلك رصيدًا ثقافيًّا ودينيًّا يجعلها أكثر قدرة على تحويل الصّدمات إلى رموز جماعيّة. فالمخيال العاشورائي يمنح المظلوميّة معنى يتجاوز الخسارة الفرديّة، ويحوّل الضّحايا إلى "شهداء" في سرديّة المقاومة. كذلك، قوّة الرّوابط العائليّة والقرابيّة والمؤسّسات الاجتماعيّة توفّر شبكة دعم تعزّز الصّمود.
لذلك، واجهت هذه البيئة جريمة "البيجر" ليس بالانكسار، بل بآليّات نفسيّة–اجتماعيّة تمكّنها من دمج الجرح في هويّة جماعيّة صلبة، تتقن فنّ تحويل الألم إلى قوّة تعبئة.
التّكنولوجيا والانحطاط القيمي
وراء البعد اللّبناني، تطرح جريمة "البيجر" سؤالًا أوسع: ماذا يعني أن تتحوّل أداة تكنولوجيّة يوميّة إلى قنبلة موقوتة؟ يُفترض أن يخدم العلم الإنسان، لكن حين يُنزَع عنه بُعده الأخلاقي، يغدو رمزًا لانحطاط البشريّة بدل تقدّمها.
المجزرة إنذار مبكّر لعصر قد تصبح فيه الحياة اليوميّة محاطة بتهديدات غير مرئيّة. فإذا كان "البيجر" قد حمل الموت في داخله، فما الذي قد تفعله أدوات الذّكاء الاصطناعي أو النّانو في حروب المستقبل؟ إنّها رسالة واضحة: العلم بلا قيم لا يصنع حضارة، بل يفتح أبواب التّوحّش بأشكال أكثر دقّة وخفاء.
خاتمة
أثبتت جريمة "البيجر" أنّ الصّدمات ليست مجرّد وقائع أمنيّة، بل لحظات تكشف عن عمق البنية النّفسيّة والاجتماعيّة للمجتمعات. فهي وضعت اللّبنانيّين أمام مرآة أنفسهم: بين التّعاطف والشّماتة، بين التّماسك والانقسام. وفي الوقت نفسه، طرحت على البشريّة جمعاء سؤالًا وجوديًّا حول العلاقة بين التّقدّم العلمي والضّمير الإنساني.
إنّها ليست جريمة محلّيّة فحسب، بل جرس إنذار عالمي: إذا لم يُرافق التّقدّم العلمي نظامٌ قيميٌّ يحمي الإنسان، فإنّ المستقبل سيكون أكثر قسوة من الحاضر. والسّؤال الّذي يظلّ مفتوحًا: هل تستطيع البشريّة إعادة بناء منظومة قيم تحفظ إنسانيّتها، أم أنّها دخلت بالفعل زمن "ما بعد القيم" حيث تُستباح الكرامة الإنسانيّة بلا رادع؟
*متخصّص في علم النّفس الاجتماعي والعلوم البصريّة والإداريّة