عودة أهالي الخيام: ثقافة الحياة تنتصر على الحرب في الحافة الأمامية لجنوب لبنان
بقلم: حسين غريب باشا
في مشهد يعكس صمود الجنوب اللبناني وعزيمة أهله، عاد أهالي بلدة الخيام في قضاء مرجعيون إلى منازلهم الواقعة على خط المواجهة، بعد شهور من التّهجير القسريّ نتيجة التّصعيد العسكريّ الإسرائيلي المستمّر منذ بداية العدوان. هذه العودة، الّتي تمثّل الشّجاعة، تأتي على الرغم من استمرار التّهديدات والخروقات الإسرائيلية في المنطقة الحدودية.
تقع الخيام في أقصى الجنوب الشّرقيّ من لبنان، وهي من القرى الأمامية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلّة، وقد كانت ساحة لمعركة شرسة خاضها مقاتلو حزب الله ضد الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة. لعبت البلدة دورًا محوريًا في صدّ الهجمات، وشهدت على أشرس الاشتباكات البرّية.
مع توقّف القصف مؤقتًا وانحسار العمليات العسكرية، تغيّر المشهد تدريجيًا. فقد عاد بعض السّكان سيرًا على الأقدام أو بسياراتهم المحمّلة بما تبقى من حاجاتهم، ليتفقّدوا منازلهم وكرومهم، ويحيوا ما أمكن من مظاهر الحياة اليومية. وعلى الرّغم من الدّمار الّذي طال بعض الأحياء والبُنى التحتية، فإنّ الإصرار على العودة بدا أقوى من رائحة البارود.
الخيام تنفض غبار الدمار وتبدأ بالعودة إلى الحياة
خلفت الحرب على مدينة الخيام آثارًا مدمرة، إذ دُمّرت حوالي ألفين وثمانمئة (2800) وحدة سكنية بالكامل، وتحولت إلى أكوام من الرّكام لا تصلح للسّكن ولا تؤوي أحدًا، وإنّ أنقاض أربعة مساجد ومستوصفات صحيّة ما زالت شاهدة على القصف. إلى جانب ذلك، تضرّرت بحدود خمسة آلاف (5000) وحدة سكنية جزئيًا، بعضها لم يعد صالحًا للسّكن، والآخر بات يحتاج إلى ترميمات عاجلة وكبيرة.
إنّ حجم هذا الدّمار لا يقاس فقط بالمباني المنهارة، بل بالذّكريات الّتي دُفنت تحت الجدران، والبيوت الّتي كانت تمتلئُ بحياة العائلات. لقد ترك المحتّل خلفه ما هو أكثر من الرّكام، إنّها عبارات حقدٍ على جدران البيوت، كلمات تنضح بغطرسة المعتدي واحتقاره للكرامة. كتبوا على تلك الجدران ما يكشف نواياهم السّوداء، وكأنهم ظنّوا أن كلماتهم ستكسر إرادة الناس. لكنّ الجدران، وإن تهدمت، تبقى شاهدة على جريمة، وعلى يقين لا يُكسر أنّ هذه الأرض لأهلها، وكلّ كلمة حقدٍ ستُمحى بماء العودة.
العودة رغم الظروف القاسية والألم
رغم صعوبة الظروف وتدمير البنية التحتية الأساسية والغياب التام لمؤسسات الدولة كافّة، والطّرقات المدمّرة الّتي تعرقل الحركة، عادت نحو سبعمائة (700) عائلة إلى مدينة الخيام بعد انتهاء الحرب، عودة حملت في طياتها الكثير من الشجاعة والإصرار، عاد الأهالي ليقفوا على أنقاض بيوتهم، يحاولون ترميم ما أمكن، ويبنون من الإرادة جدرانًا جديدة.
يقول الحاج أبو علي البالغ اثنين وسبعين عامًا، الّذي سجّل اسمه في لائحة أوائل العائدين إلى الخيام:
"خلقت هون، وتزوّجت هون، وزرعت كل شبر من ترابها بعرق جبيني.. هجّرونا بالقصف، بس ما قدروا يقتلوا حبنا لهالأرض، رجعت، ولو على الركام، لأن الأرض أم، وما رح نترك أمّنا لو شو ما صار".
أمّا أم حسين البالغة ستًّا وخمسين عامًا، العائدة إلى منزلها المتضرّر فتقول:
"أنا ما بخاف من صوت الطيارة ولا من دوي القصف.. خوفي الوحيد إني شوف بيتي فاضي، بلا أهل. بس اليوم، لما سمعت صوت الأطفال عم يلعبوا بالحارة، حسّيت إنو الحياة رجعت من جديد".
ويقول الشاب علي ذو السبعة والعشرين من عمره، المتطوّع في الدفاع المدني خلال القصف:
"نحن مش ضحايا، نحن أبطال في بلد عم يتجدد من كل رماد. رجعت لأزرع أرضي، وأصلّح البيت، بس الأهم من هيك، رجعت حتى إحكي لابني بكرا كيف بلدتنا انتصرت، مش بس على العدو، بل على الخوف."
أمّا حسن البالغ عشر سنوات من عمره الذي يحمل كرة قديمة وجدها بين أنقاض بيته المهدم، فقد عبّر ببعض كلمات:
"اشتقت ألعب هون مع رفقاتي. حتى لو ما بقى في باب للبيت، بدي ضل هون... هون بيتي، وهون كل شي بحبّه".
العودة إلى الخيام ليست فقط عودة جغرافية، بل تحمل أبعادًا رمزية ووطنية، حيثُ إنّها تأكيد على الارتباط العميق بين أبناء الجنوب وأرضهم، وأنّ العدوان لم ينجح في كسر إرادتهم أو دفعهم للتّخلي عن قراهم. كما تشكّل تحدّيًا مباشرًا للاحتلال الذي يسعى دائمًا لتغيير الواقع الديموغرافي والضغط على المدنيين من خلال القصف والترهيب.
الخيام.. المدينة الجريحة ستعود
في الوقت نفسه، من الضروري أن تترافق هذه العودة مع دعم رسمي وشعبي لإعادة الإعمار، وتأمين الحماية والمقوّمات الأساسية لاستمرار الحياة، في ظل استمرار الخروقات الإسرائيلية الجويّة والبرّية.
إنّ عودة أهالي الخيام تمثّل نقطة مضيئة في تاريخ الصّمود الّلبناني، وتؤكّد على أنّ الجنوب، مهما قُصف، لا يُقهر، وأهله باقون كالسّنديان في أرضهم، لا يزحزحهم عدوان، ولا تنال منهم حرب.
في النهاية، كل صورة من صور العودة بعد الحرب مهما اختلفت فهي ترسم لوحة واحدة عنوانها:
"الخيام باقية، بأهلها، بحكاياتها، وبصمودها الأسطوري".