زياد الرحباني وداعاً… "شو كبّرنا أحلام"
بقلم: حسن عليق
يندر أن يكون شخص حاضرًا في ذروة غيابه، وأن يترك رحيله حزنًا عميقًا رغم أنه، منذ سنوات، "فتحْ عتْمِة خْياله وفات" على ما قال طلال حيدر قبل عقود.
لكنه زياد الرحباني. استثنائي في حياته، في حضوره، في غيابه، في مواقفه السياسية، في سلوكه ومعيشته، في زهده، في ألحانه، في موسيقاه، في مسرحه، في كلمات أغانيه، في عبثه وجدّه، وفي انتقائه لأصدقائه وخصومه، وفي حبّه الدائم للتي أحبّها كما لو أنه أحد المجانين الذين تناقل العرب أخبارهم منذ الأزمان الغابرة.
وزياد (الذي يناديه كل محبيه "زياد"، بلا أي إضافة) كان استثنائيًّا في رحيله أيضًا (26/7/2025)، وفي الحزن الذي تركه موته المفاجئ، رغم الغياب الطويل. مفاجئ كحضوره الصاخب حين "يعود" بلا إنذار، ليُرهِق من هم حوله بحفلاته ومقالاته ومقابلاته وموسيقاه ومشاريعه السياسية وأحلامه التي لا حدود لها، وسخريته (من نفسه أولًا).
ربما يكون مسرحه و"قفشاته" أكثر ما اشتهر به شعبيًا. وهذا طبيعي، كونه "اخترع" مسرحًا لبنانيًا لا شبيه له، منذ ما بعد "سهرية" على الأقل. هو الذي يمكن أن يُقال إنه لم يترك شأنًا معاصرًا لم يتناوله في مسرحه، من السياسة إلى الاجتماع والنقد الفني والثورة والحرب والاقتصاد والحب... وفي كل ذلك، كان شيوعيًا بحق، شيوعيًا مؤمنًا بالله، محطّمًا للأصنام، ومؤمنًا عمليًا بحق الناس بالفرح والترفيه والاستمتاع بجمال المسرح والموسيقى والغناء والفنون عمومًا، بلا كلفة مادية تُذكر. لذلك، عاش زياد فقيرًا يُختصر هذا الجانب من حياته بسيارة يشتريها ثم يبيعها ثم يشتريها ثم يبيعها وهكذا… كان قادرًا على أن يعيش كالذين يُقال لهم "نجوم"، لكنه قرّر، بملء إرادته، أن يبقى فقيرًا، لأنه يرفض أن يكون الفن بابًا لمراكمة الثروة على حساب الناس، كما رفضه لأن يكون "أبو الجواهر" رمزًا للثورة.
أعظم ما أنتجه زياد هو الموسيقى، من "سألوني الناس"، إلى إعادة توزيع جزء من أعمال الأخوين ربحاني كما في ألبوم "إلى عاصي"، إلى ألحانه العبقرية البهيّة الكثيرة، ومنها ما لم يُنشَر. كان مجدِّدًا في جملته الموسيقية التي يمكن أن يكرّرها ويقلّبها وينثرها على كل الوتريات والنحاسيات وسواها حتى يُرينا - بعد أن يُسمِعَنا - أجمل ما فيها، ولو كانت لحظات صمت في خلفية صوت فيروز وهي تغنّي "اعطيني خمس دقايق بس"… وكموسيقاه، كانت كلمات أغانيه سهلة منبسطة غير ممتنعة، كأن يختصر الحياة بـ"شو كَبّرنا أحلام"!
في كل ذلك، كان زياد سياسيًّا، مسيّسًا مؤدلجًا جذريا، مدافعًا عن حقوق الناس، كل الناس، معلنًا انتماءه إلى معسكر رافضي الهيمنة والاحتلال في العالم. كان يرى في المقاومة مظهرًا من مظاهر الله، وعبّر عن ذلك على طريقته، حين قال في مقابلته مع عباس فنيش على "المنار": المقاومون هم الله".
إلى هذا الحد، وبهذا المعنى، كان زياد مؤمنًا. وإلى هذا الحد، وبهذا المعنى، كان زياد مسيّسًا، مسيّسًا إلى درجة أن كثيرين انتظروا نهايته بسقوط الاتحاد السوفياتي، لكنه عاد موسيقيًا مرهفًا إلى حد أن البعض أعلن نهايته بوفاة جوزف صقر (١٩٩٧)، لكنه عاد. عاشقًا إلى حد انتظار نهايته عند كل خيبة عاطفية. لكنه كان يعود ويعود ويعود. عاد وبقي ولم يرحل. كل ما في الأمر.. "في ناس قالوا قِتِل، في ناس قالوا ماتْ، في ناس قالوا فتحْ عتْمة خْياله وفات"…
وكما كتب لرفيقه صبحي الجيز: "نِمشي ومنكفّي الطريق"…