العقل ساحة الحرب الحديثة: كيف تواجه الإخضاع

بتول الغدّاف*

عادة، في مواجهة الحروب التقليدية، نتجه إلى "مناطق الأمان"، أما في الحرب الإدراكية، "فمنطقة الأمان" هي الوعي. هذا النوع من الحروب لا يستهدف الجسد مباشرة، بل يستهدف الإدراك، والذاكرة، والوعي الجمعي. ولهذا، فإن اتخاذ تدابير وقائية ليس رفاهًا معرفيًا بل ضرورة وجودية. فالتعرض المستمر للمحتوى المشحون، خصوصًا في أوقات الصدمة الجماعية، يؤدي إلى تآكل الإدراك وتحول المواطن إلى مستقبِل سلبي للرسائل دون مساءلة أو تحليل.

المتابعة المستمرة للأخبار العاجلة تُرهق الذهن وتُتعب النفس. فهي لا تنقل المعلومة بقدر ما تُبقيك في حالة توتر دائم، وكأنك في طوارئ لا تنتهي. في لحظات التصعيد، تُستخدم هذه الأخبار كوسيلة لإبقاء الجمهور مشدودًا، قلقًا، غير قادر على الاستراحة أو التفكير بهدوء. في الواقع، لم تعد الأخبار العاجلة تُخبرنا بما يحدث، بل تُدير طريقة شعورنا حياله. إنها لا تمنحنا وقتًا للفهم بل في حالة تأهّب دائم، محرومين من الراحة، مشغولين بردود الأفعال، لا بالتفكير الهادئ.

كما وإن ما تقوم به "إسرائيل" اليوم في سياق مواجهتها مع إيران هو تكثيف هذا النوع من المحتوى: أخبار عاجلة متلاحقة، أحيانًا غير مؤكدة، وأحيانًا أخرى مضللة بالكامل، بهدف صناعة شعور بأن كل شيء يتحرك بسرعة، وأن لا مجال للفهم أو للسيطرة. الفكرة ليست نقل الواقع، بل خلق واقع بديل من التوتر والضياع.

والأسوأ من التكرار هو الكذب المتعمّد. كثير من "الأخبار العاجلة" في زمن الحرب لا تكون فقط ناقصة أو مبالغًا فيها، بل تكون مختلقة بالكامل. هذا التزوير لا يهدف فقط إلى تضليل العدو، بل إلى ضرب جمهور المتلقين: خلق صدمة، ثم خيبة، ثم لا مبالاة. في العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران، تستخدم "إسرائيل" هذا النمط بكثافة: تكثر من الأخبار العاجلة عن الكم الهائل للصواريخ الإيرانية وعددها، وحين تضرب ايران فعلًا، ولكن بعدد صواريخ أقل، يصاب الجمهور بخيبة، فيُضعف قيمة الضربة الفعلية.

بالإضافة الى الأخبار العاجلة عن انفجارات، واغتيالات، وضربات "دقيقة"، والتي يتبيّن لاحقًا أن كثيرًا منها غير دقيق أو غير حقيقي. والهدف؟ إبقاء الرأي العام في حالة استنفار دائم، والتأثير على المزاج الشعبي لدى جمهور الخصم وحلفائه. بمعنى آخر: قصف نفسي، لا يقل خطورة عن القصف العسكري.

لذلك، تصبح حماية الذهن شرطًا أساسيًّا للحفاظ على وضوح الرؤية، لا ترفًا كما قد يدّعي البعض. من المهم أن نمنح أنفسنا فسحة من هدوء منتظمة، نبتعد فيها عن دوّامة الإشعارات والتحديثات المستمرة. كما وأن قراءة الأخبار بشكل مجمّع، في أوقات محددة من اليوم (كنشرة الأخبار المسائية)، لا تُنقص من فهمنا لما يجري، بل تمنحنا فرصة لرؤية الصورة كاملة بهدوء وعمق. على العكس من ذلك، المتابعة اللحظية للأخبار العاجلة تُبقي الذهن في حالة ترقّب وتوتر، تمنعه من التحليل، وتغذّي ردود الفعل السريعة بدل الفهم المتأني. المعرفة لا تأتي من السرعة، بل من التركيز، والبُعد أحيانًا هو ما يوفّر لنا المنظور الأوضح.

كيف نحمي وعينا؟

في مواجهة الحرب الإدراكية، لا تكفي النوايا الطيبة ولا التنظيرات العامة. نحن بحاجة إلى أدوات واقعية، يومية، نمارسها لحماية وعينا من التآكل البطيء. من بين أكثر النصائح فعالية:

1. تقييد التعرض: تخصيص أوقات محددة لاستهلاك الأخبار، بدل المتابعة اللحظية، يساعد على تقليص التوتر، وتصفية المحتوى المدسوس، وإعادة التوازن النفسي والإدراكي.

2. إلغاء متابعة المنصات التي ثبت تزويرها للحقائق، أو تلك التي تستنسخ الأخبار من مصادر مجهولة. لا ينبغي منح هذه المنصات القدرة على تشكيل وعينا.

3. فحص المصادر بوعي: التثبّت من هوية الناشر، خلفيته السياسية، والجهات المموّلة له، ضروري خصوصًا مع تنامي ظاهرة الأخبار العاجلة الموجّهة التي تخدم أجندات معينة.

4. الالتزام بعدد محدود من المصادر الموثوقة، وتفضيل الصحافة التحليلية على العناوين السريعة التي تفتقد للسياق.

5. تتبع البنية السردية: كل مادة إعلامية تحتوي على عناصر روائية (بطل، ضحية، معتدٍ، نهاية مقترحة). فهم هذه البنية يُمكّن من تفكيك الرسالة الكامنة، لا استهلاكها كما هي.

6. طرح الأسئلة الصحيحة: مثل: "من يتحدث؟ ولماذا الآن؟ ما الذي غاب عن هذا الخبر؟ ما المشاعر التي يُراد لي أن أشعر بها؟" هذه الأسئلة تُعيدنا من الانفعال إلى التفكير، سيما السؤال الأخير، فهو يعيدنا للتحكم بأنفسنا بردات أفعالنا بمقابل أن يتحكم بها ناشر الخبر.

7. الاحتفاظ بالسياق العام: من المهم ألا نسمح للتفاصيل المبعثرة أن تحجب عنا الصورة الأكبر. تذكير الذات دائمًا بمن هو المعتدي، ومن هو الضحية، وما هي جذور الصراع، يساعد في الحفاظ على بوصلتنا الأخلاقية.

8. إغناء الذاكرة بأمثلة واقعية: استحضار نماذج من المقاومة الإدراكية التي نجحت -سواء في فلسطين أو في لبنان- يُعيد الثقة بالقدرة على المواجهة، ويفضح هشاشة الخطاب التضليلي. كما وتذكر خطابات السيد حسن الشهيد يعطي من القوة والثبات جرعات ضرورية.

9. فهم الأثر النفسي للمحتوى الصادم: التعامل المستمر مع المواد مشحونة بصريًا أو لغويًا يؤثر على الدماغ كما تؤثر الصدمات المباشرة. لذلك، من الضروري التعامل مع الاستهلاك الإعلامي كفعل له تبعات عصبية وعاطفية، وليس مجرد تمرير للمعلومات.

10. إدراك موقع الحرب الإدراكية في منظومة الهيمنة: هذا النوع من الحروب ليس طارئًا أو هامشيًا، بل هو امتداد لنمط عالمي من إنتاج الواقع وتوجيه الرأي العام. إدراكنا لهذا السياق يُحرّرنا من الشعور بالعجز الفردي ويُعيد ربطنا بالمواجهة الشاملة.

11. استعادة القدرة على التوثيق والمقاومة الرمزية: عبر الكتابة، الفن، السخرية السياسية، التعليم الشعبي، والتوثيق السردي، هذه أدوات لا تقل أهمية عن أي أداة سياسية أخرى، وهي قادرة على إنتاج خطاب بديل وحماية الوعي من التآكل.

خلاصةً، الوعي ليس ترفًا ولا ترفيهًا، بل خط الدفاع الأول. واجبنا اليوم أن نصنع عادات إعلامية مقاومة، لنُحصّن عقولنا كما نُحصّن حدودنا. فالمعركةاليوم على الإدراك، ونحن طرف فيها، شئنا أم أبينا، ومن لا يحمي ذاكرته، سيصبح ضحية.

*ماجستير في الشؤون الدولية، باحثة في مجال الاستعمار ومناهضة الاستعمار

[email protected]

منشورات ذات صلة