انتخابات المغتربين ومُعضلة الدستورية

أسامة رحّال*

يُشير جورج بوردو إلى الموقع الأساسي الذي تَشغلُه النظم الانتخابية بالنسبة للنظم الدستورية بقوله إنّ "النظام الانتخابي يضحي فعليًا الدستور الحقيقي الوحيد للبلاد".

ولا يحتاج المتتبع لسيرورة النظم الانتخابية منذ نشأة الكيان اللبناني إلى الكثير من الجهد ليبصر واقع التمثيل السياسي المعطوب، أولًا، بفعل القوانين الانتخابية الأداتية، وثانيًا، بفعل التمديد المتكرر، سواء في خضم الحرب الأهلية، أو إبّان التنازع الطائفي البارد بعد عام 2009. وكان إقرار القانون رقم 44/2017، والذي حمل معه تغييرات كبيرة في طبيعة النظام الانتخابي للمجلس النيابي اللبناني، ونقله من الأنظمة الأكثرية إلى الأنظمة النسبية، نقطة هامة في مسار تصحيح التمثيل السياسي في البلاد، لكنّ هذا التصحيح بقي غير تام.

فحمل هذا القانون ثغرات تشوب عدالة التمثيل لدى بعض الفئات، وتتعارض مع الأسس الثابتة لعدالة التمثيل وصحته، وأهمها معالجته لمسألة اقتراع غير المقيمين حيث شابها الكثير من الغموض والضياع، وبقيت الأحكام القانونية التي تنظّمها، منذ إقرار القانون، موضع أخذ ورد.

وبشكل عام لا يُعتبر منح غير المقيمين حق التصويت معيارًا لديمقراطية الانتخاب، لكنّه قد يكون خيارًا يمكن أخذه بعين الاعتبار، بحسب ظروف البلاد. (أنظر: بيتر اربين وآخرون، التصويت خارج البلاد: لمحة موجزة، المؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية2012 ، ص 1).

تجربة انتخابات 2018 و2022 لاقتراع غير المقيميين
منذ التجربة الأولى لانتخاب غير المقيمين في انتحابات العام 2018 برزت بشأنها إشكاليات جوهرية طعنت في مدى دستوريتها، إذ ذهب أنطوان مسرّه في مخالفته لقرار المجلس الدستوري رقم 17/2018 للقول إنّ دعوة اللبنانيين للمشاركة في انتخابات 2018 على أساس الدوائر المعتمدة للمقيمين يُشكل مخالفة جسيمة لشرعية السلطة.

وأكّد مسرّه على أنّ المقاعد الستة لغير المقيمين ذات أهمية معيارية، أمّا حق الاقتراع لغير المقيمين الوارد بشكل عام في المادة الثالثة من القانون "ليس حقًا مواطنيًا جوهريًا ومطلقًا، بل حق مرتبط بتنظيم لممارسته". ورؤية مسرّه هذه تتوافق مع مقاربات مُقارِنة تعتبر أنّ اعتماد دوائر خاصة بغير المقيمين خيارًا مفضلًا لو تم السماح لهذه الفئة بالمشاركة. (أنظر: بيتر اربين وآخرون، مرجع سابق، ص 2).

وأضف إلى ذلك أنّ حق غير المقيمين في التصويت لا ينعدم إذا لم يتم اعتماد التصويت في بلاد الاغتراب، بل يبقى ذلك الحق محفوظًا لهم لو حضروا إلى بلادهم للاقتراع، فالعديد من الحقوق الدستورية والقانونية لا يمكن ممارستها في بعض الظروف دون الحضور إلى البلاد شخصيًا، رغم وجود وكلاء قانونيين.

أمّا بالنسبة لانتخابات العام 2022 فقد جرى قبل فترة قصيرة من الانتخابات تعديل تشريعي علّق لمرّة واحدة أحكام المواد الناظمة لانتخاب غير المقيمين وفق دائرة المغتربين، وأخضعهم للاقتراع وفق دوائر المقيمين الـ 15، مما أربك المكينات الانتخابية والمرشحيين وغير المقيميين على حد سواء، لأنّ القانون النافذ حكمًا رقم 8 الذي عدّل هذه الأحكام صدر بتاريخ 03-11-2021، في حين أنّ باب التسجيل لانتخابات غير المقيمين افتتح في 20 -09- 2021 وأُغلق في 20-11-2021، الأمر الذي يشير إلى الأداتية والخفة في التعامل مع المهل ومع صحة التمثيل، فجزء كبير من هؤلاء سجلوا على أساس تنظيم قانوني معيّن لمشاركتهم في الانتخابات، وبعد تسجيلهم تم تعديل هذا التنظيم!

ثغرات المواد 112 و122 وعدم قابلية تطبيقها
حاليًا تبقى المادة 112 من القانون 44/2017 هي النافذة، وهي تُخصص للمغتربين 6 نواب "تحدد بالتساوي ما بين المسيحيين والمسلمين، موزعين كالتالي: ماروني – أرثوذكسي – كاثوليكي سني- شيعي – درزي، وبالتساوي في القارات الست".

ويفتقر هذا النصّ إلى آلية واضحة لتطبيقها مما يجعل تنفيذ المادة 112 بصيغتها الحالية أمرًا مستحيلًا، لأنّها لا توضح آلية استيفاء المقاعد طائفيا ومذهبيًا وقاريًا. وقد اقترحت اللجنة المشتركة بين وزارة الداخلية ووزارة الخارجية (المُشكّلة بموجب المادة 123 من قانون الانتخاب) إلى دراسة ثلاثة أساليب لتطبيقها، واقتراحت اعتماد أحدها.

لكنّ تمحيص الأساليب الثلاثة المقترحة يقود إلى القول بعدم عدالتها جميعها ومن بينها الاقتراح الذي تبنته اللجنة، فهذا الاقتراح يعتمد دائرة المغتربين بمقاعدها الستة كدائرة كبرى وكل قارة دائرة صغرى. أمّا آلية توزيع المقاعد فقضت بترتيب النسب المئوية لكل مذهب في كل قارة من الأعلى إلى الأدنى واستيفاء المقاعد مذهبيًا وقاريًا وفق المعادلة الآتية:
عدد المسجلين من كل طائفة في كل قارة / مجموع المسجلين من كل الطوائف في القارة). وتعطي هذه المعادلة مقعد أمريكا الجنوبية، مثلًا، لطائفة الدرزية، مع أنّ نسبة أبناءها في هذه القارة يقارب 8% فقط من نسبة الناخبين المسجلين فيها وفق أرقام انتخابات العام 2022، كما تعطي مقعد أوروربا للروم الكاثوليك الذين لم يشكلوا أكثر من 7% من الناخبين المسجلين في هذه القارة في العام 2022، أمّا مقعد أمريكا الشمالية فيذهب للروم الأرثوذكس مع أنّ المسجلين منها لم يزيدوا عن 15% من مجمل المسجلين في هذه القارة في العام نفسه.

في كل حال، فإنّ اللجنة بقراراتها التي تصدر عن الوزيرين المختصين، منوطة بتطبيق دقائق القانون فقط، أمّا تقسيم مقاعد الطوائف والمذاهب غير المقيمين بين القارات وفق أي صيغة كانت، فيحتاج إلى تعديل تشريعي، لأنّه تغيير هام وأساسي في القانون ولا يدخل في مفهوم الدقائق التطبيقية للقانون.

أضف إلى ذلك نصّ المادة 122 من القانون الذي يوجب استبدال مقاعد غير المقيمين الستة بمقاعد من دوائر المقيمين، الأمر الذي يطرح مُعضلة أخرى، تعمّق الإشكاليات الدستورية والقانونية التي تعتري اقتراع غير المقيميين حسب النصوص النافذة، فما هو المعيار الذي يصار على أساسه إلى استبدال هذه المقاعد في ظل خلو القانون من أيّ معيار؟

اقتراع غير المقيمين والتعرُّض لحرية بعض الناخبين
تعرّضت بعض الأحزاب اللبنانية وبعض السياسيين -المرشحين المحتملين- (حزب الله، ورئيس التيار الوطني الحر، ورئيس حزب التوحيد العربي، ونائب في كتلة التنمية والتحرير ووزير سابق في تيار المردة، وغيرهم) إلى عقوبات سياسية ومالية وتُهم من قبيل الإرهاب أو تبيض الأموال، في دول عدّة، على رأسها الولايات المتحدة، الأمر الذي يُعرّض الناخبين لخطر العقوبات في حال التصويت لهم أو التواصل معهم، بما يؤثر دون شك على حرية هؤلاء الناخبين، فيجعل هذه الحرية مسلوبة أو معيوبة، ويكون من نافل القول إنّ هؤلاء المرشحين يفقدون حقهم بممارسة حملات انتخابية في تلك الدول مثل غيرهم من المرشحين، مما يُقوّض عدالة الحملات الانتخابية.

ويُصبح تأثير هذه العقوبات أوضح عند العودة إلى أرقام انتخابات العام 2022، فالدول السبعة حيث أكبر تسجيل للمغتربين وهي على التوالي: فرنسا، والإمارت، وكندا والولايات المتحدة واستراليا وألمانيا والسعودية، والتي تُشكّل نسبة 70% من أعداد غير المقيمين المسجلين حينها، تضع عقوبات على بعض أو كل الأحزاب السياسية أو السياسيين المذكورين أعلاه.

فكيف يمكن، والحال ما ذكر، اعتبار مشاركة غير المقيمين في تلك الدول وهم رازحون تحت مقصلة العقوبات والملاحقة القضائية مشاركة ديمقراطية تعكس صحة التمثيل؟ وألا تعطي هذه العقوبات أفضلية لبعض المرشحين على غيرهم بصورة مخالفة لأبسط قواعد صحة التمثيل السياسي؟

وخلاصة القول هنا، أن الثغرات التي تعتري نصّ القانون 44/2017 وفق ما تم شرحه أعلاه، والتجربة السابقة في الخفة بالتعامل مع النصوص التشريعية، ناهيك بالخطر المُحدِق بالناخبين في بعض دول الاغتراب جرّاء ممارستهم لأبسط قواعد اختيار ممثليهم، كتواصل مع بعض المرشحين الموضوعين على لوائح للعقوبات والمشاركة في حملاتهم الانتخابية والتصويت لهم، يضع انتخابات غير المقيمين، في مثل هذه الظروف، في موضع مخالف لأساسيات القواعد الدستورية والقانونية لصحة الانتخابات وعدالة التمثيل ويُعرِّض الانتخابات برمتها إلى خطر الإبطال، وليس فقط انتخابات المغتربين، فهل يُعقل "للدستور الحقيقي الوحيد للبلاد" كما وصفه جورج بوردو أن يكون بنفسه مخالفًا للقواعد الدستورية والقانونية لصحة التمثيل السياسي وعدالته؟


*باحث في القانون الدستوري وأنظمة الانتخاب
[email protected]

منشورات ذات صلة