بنت جبيل... عاصمة التحرير تقهر العدوان

إعداد: هاشم السيد حسن

بعد أشهر على انتهاء العدوان، تستعيد المدينة عافيتها الاجتماعية، ويزدهر الأمل في نهضة اقتصادية واعدة.
مع شروق كل شمس، يبدأ النهار في بنت جبيل كأن المدينة تعيد رسم حاضرها لحظة بلحظة.
يتسلل الضوء بين الحارات والاحياء ليوقظ الأمل، فتنهض الطرقات بخطى بعض الاهالي المتجهين لأرضهم يتفقّدون شتلات "الكوسى والبندورة والخيار"، وتتوزع سيارات تقلّ عمال البناء إلى الورش المتناثرة، حيث المطرقة والمسمار يواصلان سرد حكاية النهوض.
وقرابة السابعة والنصف، تبدأ المحال التجارية بفتح أبوابها المعدنية الجرّارة على مهل، يُسمع صريرها كتحية للنهار الجديد، وتنتظم الحياة تدريجيًا بين السوق العام، والسراي الرسمي، والمراكز الصحية والرياضية، فتتكوّن سمفونية من النشاط اليومي.
فبنت جبيل اختارت أن تُقاوم، وتُعيد بناء ذاتها بحسّ من البطولة اليومية، وذلك ليس بغريب على مدينة كانت تاريخيًا منبرًا للعلم والأدب والثورة. وكانت منذ ثورة فلسطين عام 1936 وصولًا إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، في الصفوف الأولى، حيث صدحت باسمها عبارة النصر "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، لترسّخ هويتها كعاصمة المقاومة والتحرير.

معركة تموز 2006... نار الحقد ووهج الثبات
لم تكن بنت جبيل مجرد مدينة في خارطة العدوان الإسرائيلي عام 2006، بل كانت الهدف، المحطة التي أرادت "إسرائيل" من خلالها إذلال رمز المقاومة. استمرت المعركة من 23 تموز/يوليو حتى 11 آب/أغسطس، وشاركت فيها وحدات نخبة إسرائيلية أبرزها لواء جولاني، الكتيبة 51، ووحدة إيجوز. لكنهم اصطدموا بمقاومين وأبطال وقادة كالشهيد خالد أحمد بزي الذين قاتلوا ببسالة، وأوقعوا في صفوف العدو خسائر بشرية فادحة، بلغت بحسب الإعلام الإسرائيلي مقتل 17 جنديًا رسميًا، في حين قدّرت المقاومة العدد بما يفوق 30 وتحولت المدينة منذ ذلك الوقت الى المدينة الملعونة بحسب إعلام العدو.

بنت جبيل... حضور دائم على جبهات المقاومة
بعد سبعة عشر عامًا من معركة تموز، عادت بنت جبيل لتثبت أنها لا تغيب عن ساحات المواجهة. ففي عام 2023، ومع اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في غزة، لبّت المدينة نداء الإسناد دون تردد. التحق شبانها بجبهات قتالهم، حاملين إرثًا من البطولة، ومؤمنين بأن طريق القدس لا يُسلك إلا بالدم والوفاء.
وفي كانون الأول من العام نفسه، قدّمت بنت جبيل أول شهدائها على طريق القدس، ومنذ ذلك التاريخ، توالت قوافل الشهداء من المدينة، مقاومين ومدنيين، حتى بلغ عددهم اكثر 120 شهيدًا، كلٌّ منهم حكاية من نور، وكلٌّ منهم لبنة في جدار الصمود.
وفي أولي البأس كان لبنت جبيل بأس رجالها، وإن كان الحدث الأبرز في قرى الحافة الامامية أن كان العدو يحاول جس نبض المقاومة هنا، وفي كل محاولة تصدٍ وبطولة تكتب عند كروم الدبش او في الوادي وتتضح معالمها اكثر عندما حاولت الكتبية 51 في لواء غولاني التقدم باتجاه مربع التحرير لاستعادة الثقة بعد 17 عامًا على كمين كرم الزيتون.. فعادت كما المرة السابقة خائبة مهزومة وجنودها بين قتيل وجريح.

الانتصار الثاني... حين زرعوا الحياة من تحت الركام
مع انتهاء إطلاق النار، وهدأة البنادق، بدأت بنت جبيل معركتها الجديدة، معركة البناء والإحياء. وبينما كانت بعض من قرى الحافة كمارون الراس ويارون المجاورتين تُفخّخ وتُنسف على يد الاحتلال، كانت بنت جبيل تضمّد جراحها. سبعون عائلة أو اكثر بقليل عادت إلى منازلها رغم الخطر، غير آبهة بعمليات الترهيب والتوغل، والرصاص العشوائي الذي طال منازلها، لتشكل بأجسادها وأبواب بيوتها حصنًا شعبيًا، وعائقًا أمام ما كان يبيته العدو للمدينة من دمار وفي الآن عينه، وهنا يقول أبو علي وهو من أول الاشخاص العائدين الى المدينة: " كل يوم الصبح نفيق ع صوت رصاص باتجاه المدينة غير صوت الجرافات والدبابات بمارون وعيترون ويارون. كان فكرهم يخوفونا لنرجع نفل.. بس نحن ولا يوم خفنا ونحن زرعنا الحياة من جديد بهالارض بعد ما انروت بدم الشهدا."

ومن اليوم الثاني لوقف إطلاق النار، كانت مستشفى الاستشهادي صلاح غندور تفتح أبوابها للحالات الطارئة رغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بها خلال العدوان المباشر عليها، وخلال شهر ونيف كانت عمليات الصيانة انتهت وتدريجيًا عادت الأقسام فيها للعمل واستقبال المرضى.
وفي الأيام العشرة الاولى، أعيد افتتاح أول المحال الغذائية، وفرن وملحمة ومحال خضار، وأصبحت المدينة وجهة للوافدين من القرى المجاورة شمالي المدينة وكأن لسان حال الموجودين نحن أصل الحياة ومقوماتها، وهذا ما يؤكد عليه احد اصحاب المحال في المدينة: "بعد اسبوع فتحنا المحل، نضفنا العدة وبلشنا شغل والحمدالله هيانا بعدنا هون ومكفيين".
وفي الفترة عينها نشطت جمعيات اهلية ومحلية من خلال تقديم مساعدات عينية ومادية، تنظيف شوارع المدينة، بالاضافة الى انشاء مطبخ عمل على تأمين الطعام لعدد من المتواجدين فيها.
ومع انتهاء مهلة الستين يومًا، بدأ عدد العائلات المقيمة يرتفع تدريجيًا حتى تجاوز اليوم 1300 عائلة، بينها عشرات العائلات المهجرة من القرى المحاذية للحدود. كما انطلقت ورشة ترميم شملت اكثر من 1000 وحدة سكنية، وعاد "سوق الخميس" الشعبي ينبض من جديد، وانتظمت معظم المؤسسات التجارية والرسمية، فيما فتحت مصالح جديدة أبوابها، لتعلن المدينة أنها حيّة، رغم الخراب.

بنت جبيل تضيء دروبها من جديد
وفي الفترة عينها ومع انقضاء اليوم الستين، انطلقت ورش صيانة شبكة الاشتراكات التابعة لبلدية بنت جبيل، وأضيئت الطرقات باكثر من 1200 إنارة شمسية، وكان للاغتراب البنتجبيلي دور واضح في دعم مشاريع خدمية وخيرية، أعادت الروح إلى شرايين المجتمع، في صورة من صور التكافل الاجتماعي، فيما شارفت ورشة صيانة شبكة المياه على الانتهاء.

نحو المستقبل... التعليم كأولوية
وفي مسارٍ موازٍ، واستعدادًا للعام الدراسي 2025/2026، بدأت أعمال الترميم في قرابة 8 من المدارس الرسمية والخاصة، ومبنى الجامعة اللبنانية، لتُفتح مجددًا أمام طلاب يخطّون دروبهم بالعلم، حالمين بمستقبل يليق بتاريخ مدينتهم ومنطقتهم بعد سنة يختصرها محمد الطالب في احدى ثانويات المدينة بأنها كانت الأصعب: "طالب المدرسة الرسمية كان عم يتابع اونلاين وكانت الانترنت والارسال مش متوفر كثير اول فترة، ويلي بالمدرسة الخاصة كان ينزل من بنت جبيل ع معروب او ع عين المزراب. الحمدالله قطعنا هيدي السنة بكل عذاباتها وان شاء الله العام الدراسي الجاي منرجع عمدارسنا ببنت جبيل".
وفي الفترة عينها أعيد العمل بالسراي الرسمي في المدينة، وأعيد افتتاح المستشفى الحكومى والمستوصفات ومراكز الرعاية الصحية.

وعلى المشهد الرياضي، تمّت عملية صيانة المنشأة الرياضية وافتتاح المسبح وملعب كرة القدم وملعب المينيفوتبول، حيث يقدّر المعنيون أنّ أكثر من ألف طفل وشاب يرتادون هذا الصرح اسبوعيًا أكان عبر الاكادميات الرياضية او عبر الاندية الكشفية او بشكل فردي، وذلك ما يشكل عامل استقرار نفسي لأطفال وفتية المدينة، حيث يقول أحد المتابعين لهذا الشأن: "نحاول خلق بيئة تشعر الطفل بالأمان والاستقرار.. بعد سنة ونصف من حربٍ وتهجير، يعاود هذا الطفل اليوم الاندماج مع أصدقائه ويفرغ جزء من الشعور الصعب الذي مرَّ عليه الفترة الماضية".


ختامًا، وبالعودة الى مشهد المدينة نهارًا، تسطع المدينة بحركتها التجارية، التي تفتقد لجزء من أبناء القرى المحاذية الذين كانوا عصبًا اقتصاديًا لها. أمّا ورش البناء والترميم فتعمّ البلدة الحدودية، في حين أنّ اكثر من 50٪ من الأبنية المتضررة أُعيد ترميمها بالكامل، ويستكمل العمل بجزء يسير منها وذلك بعد استكمال عمليات الكشف الميداني على ما يفوق الـ4500 وحدة سكنية، بينها قرابة الثلاثمئة مهدمة كليًا.
وفي مساءاتها، تلوذ المدينة بهدوئها القديم، تحرسها أعين شهدائها، وتخرق سكينتها همسات النوافذ والشرفات وضحكات أطفال، لا يلهون فقط بل يعيدون رسم التاريخ، ويشيدون فوق الركام حاضرًا يُبنى بالإرادة، ويُحفظ بالمقاومة.

منشورات ذات صلة