نصف قرن من «بخّ السُّم» القواتي في واشنطن
من يتابع الجدل السياسي الدائر في بيروت حول «بخّ السُّم في واشنطن»، يدرك أن المسألة تتجاوز ردود الفعل الآنية أو الخطابات الانفعالية، وأنها مرتبطة ببنية عميقة من العلاقات والاتصالات واللوبيات التي لم تنشأ فجأة، بل جاءت نتيجة مشروع طويل وممتدّ بدأ منذ ما يقارب نصف قرن. فحين تحدّث رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون عن أطراف لبنانية تنشط في العاصمة الأميركية بهدف التأثير على مواقفها ضد مؤسسات الدولة، لم يكن يشير إلى ظاهرة مستجدّة، بل إلى شبكة كاملة من النفوذ السياسي والإعلامي التي نسجتها «القوات اللبنانية» منذ أواخر السبعينيات، مستندة إلى سجل موثَّق لدى وزارة العدل الأميركية في إطار قانون العملاء الأجانب (FARA). هذه الوثائق، وبعضها يعود إلى عام 1978، تكشف أن القوات كانت أول تنظيم سياسي لبناني يبني حضوراً رسمياً داخل واشنطن، وأن هذا الحضور لم يكن هامشياً أو رمزياً، بل متجذّراً ومنظّماً ومتطوراً مع الزمن.
الوثيقة الأولى تعود إلى تاريخ 27 تموز 1978، عندما سُجّل في الولايات المتحدة ما يسمى «المركز اللبناني للإعلام والأبحاث» (Lebanese Information & Research Center) كجهة تعمل في واشنطن باسم شخصيات لبنانية، ولكن سرعان ما أصبحت «القوات اللبنانية» هي «الجهة الأجنبية» الرسمية التي يمثّلها هذا المركز. وتشير وثيقة أخرى صادرة في تشرين الأول من العام نفسه إلى تسجيل القوات اللبنانية نفسها كـ«Foreign Principal» لدى المركز المذكور، وهو تعبير قانوني يعني ببساطة أن المركز بات يعمل كذراع إعلامية وسياسية لصالح القوات داخل الولايات المتحدة. في تلك المرحلة، لم تكن الحرب اللبنانية قد بلغت ذروتها بعد، ولم يكن اسم «اللوبي» قد دخل الأدبيات اللبنانية، لكن القوات كانت تبني منذ ذلك الحين شبكة اتصالات دائمة مع الإعلام الأميركي، ومع موظفين في الكونغرس ولجانه، ومع دوائر الشؤون الخارجية في إدارات متعاقبة.
ولم يتوقف هذا المسار عند حدود ذلك المركز البحثي، إذ تُظهر وثيقة تعود إلى كانون الثاني 1983 توقيع علاقة رسمية بين «Deaver & Hannaford» — وهي واحدة من أبرز شركات الضغط الأميركية القريبة من إدارة الرئيس رونالد ريغان — وبين «Lebanese Information & Research Center». في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ لبنان، عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وانخراط الإدارة الأميركية عسكرياً وسياسياً في البلد، كانت القوات تسعى إلى نقل رؤيتها للأحداث إلى واشنطن التي تتضمّن رؤيتها للعلاقة مع سوريا، وللمواجهة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وللتركيبة السياسية اللبنانية. كان الهدف واضحاً، وهو التأثير على مواقف الإدارة الأميركية وإقناعها بأن القوات تمثّل «الطرف الموثوق» داخل الساحة اللبنانية، وأن النفوذ السوري يجب أن يُنظر إليه بوصفه تهديداً استراتيجياً للمصالح الأميركية نفسها.
في 8 تشرين الأول 2008، أُفرِج عن وثيقة صادرة عن الـCIA تحمل الرقم NESA 83-10177C صادرة في آب 1983 عن الوكالة عنوانها «الدور السياسي والعسكري لميليشيا القوات اللبنانية». تقييم الـCIA حينها اعتبر أن القوات اللبنانية تشكّل الخطر الأكبر على سلطة الدولة والجيش اللبناني، لأنها ميليشيا منظّمة هدفها الأساسي الحفاظ على الهيمنة المارونية وتوسيع نفوذها على حساب الدولة المركزية. وأشارت الوثيقة حينها إلى أن «العلاقة بين القوات وأمين الجميّل متوترة ومتقلّبة»، إذ «استفادت القوات من انشغال الجميّل بالمفاوضات مع إسرائيل لاستعادة دورها السياسي والعسكري، فيما يخشى الجميّل أن يؤدّي أي صدام معها إلى تفجير حرب أهلية جديدة». وتعتبر الوثيقة أن «قدرة الجيش على بسط الأمن محدودة نتيجة الضغوط الطائفية وتعدّد الميليشيات»، لكنها تؤكّد أنه «إذا نجح الجيش في احتواء العنف الطائفي فسيضعف حينها مبرّر وجود القوات اللبنانية، ما يفتح المجال لإمكان تحجيمها سياسياً».
استمرّت القوات بمحاولة التأثير على التوجّهات الأميركية في لبنان، ففي أيار 1993 سُجّلت وثيقة رسمية صادرة بموجب قانون FARA نصّت على أن «Waterman Associates, Inc.» — وهي شركة ضغط واسعة الصلات في العاصمة الأميركية — باشرت بتمثيل «القوات اللبنانية» بصورة مباشرة. وقد استمر هذا التمثيل حتى 31 كانون الأول 1994، وهو ما يظهر جلياً في وثيقة تحمل تاريخ 26 أيار 1993، وتُسجّل القوات كعميل أجنبي رسمي للشركة. ما تكشفه الوثيقة المفصّلة الصادرة في نهاية عام 1994، والتي تُعدّ الأغنى في مضمونها، هو حجم العمل الذي قامت به الشركة نيابة عن القوات، فقد عقدت لقاءات واجتماعات مع أعضاء من الكونغرس الأميركي، وفتحت قنوات تواصل مع موظفي اللجان المعنية بالشؤون الخارجية، إضافة إلى لقاءات متكرّرة مع مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية لمناقشة ما تصفه الوثيقة بـ«الوجود السوري في لبنان» و«دور لبنان في عملية السلام». وكانت الشركة تُعدّ رسائل ومقالات وتحليلات تُرسل إلى الإعلام الأميركي بهدف نقل «رواية القوات» عمّا يجري في لبنان.
وتشير الوثيقة نفسها إلى إعداد «Talking Points» وإرسالها بانتظام إلى صحافيين وكتّاب، كما تكشف أن الشركة كانت تتابع بدقة أي تحوّلات في موقف الكونغرس وتواكبها بتقارير ورسائل تحليلية تُرفع إلى الجهة اللبنانية التي تمثّلها. ورغم أن الوثائق لا تذكر مبالغ مالية مرتبطة بالقوات اللبنانية، فإن وجود العقد نفسه، إضافة إلى كثافة النشاط السياسي الموثّق، يشير بوضوح إلى أن القوات كانت تستثمر في حضورها داخل العاصمة الأميركية، وأن عملها لم يكن مجرد «تواصل سياسي» بل «لوبي محترف» كامل المواصفات.
إن تتبّع هذا التاريخ يكشف أن القوات اللبنانية لم تغادر واشنطن يوماً. فقد بنت الميليشيا علاقات عابرة للعقود والإدارات، وانتقلت من مركز إعلامي صغير في نهاية السبعينيات إلى علاقات مباشرة مع شركات ضغط متخصصة، وصولاً إلى شبكة متكاملة من العلاقات مع مراكز أبحاث أميركية نافذة، ومع دوائر صنع القرار في الحزبين الجمهوري والديمقراطي. هذه الشبكة نفسها هي التي تقف اليوم خلف المواقف الأميركية المتشدّدة تجاه ملفات لبنانية محدّدة، سواء تعلّق الأمر بالعقوبات، أو بملف سلاح المقاومة، أو بالمقاربات الاقتصادية والسياسية التي تعتمدها واشنطن تجاه لبنان.
من هنا يصبح كلام رئيس الجمهورية عن «بخّ السُّم في واشنطن» كلاماً ذا جذور لا يمكن فصله عن هذا التاريخ. فالقوات اللبنانية ليست جهة اكتشفت فجأة أهمية العلاقات الأميركية، بل هي التنظيم الوحيد في لبنان الذي يمتلك تجربة متصلة منذ 1978 في بناء «رواية لبنانية» بديلة داخل واشنطن. هذه الرواية، على امتداد 45 عاماً، حافظت على جوهر واحد: تصوير لبنان كدولة مخطوفة أو محتلة من قوة محلية أو خارجية، وتقديم القوات نفسها باعتبارها «الطرف اللبناني الذي يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليه» في وجه هذا «الخطف». ما تغيّر فقط هو العدو: من سوريا في الثمانينيات والتسعينيات، إلى حزب الله في مرحلة ما بعد 2005، بينما بقيت الاستراتيجية ذاتها، وهي تدويل الصراع الداخلي، وتحويله إلى مسألة «أمن قومي أميركي»، واستخدام النفوذ الأميركي للضغط على الخصوم السياسيين في الداخل.
ليس المطلوب هنا إصدار حكم أخلاقي على هذا المسار بقدر ما هو توثيق لحقيقته. فالقوات اللبنانية تمتلك بلا شك شبكة نفوذ لبنانية داخل واشنطن، وهي شبكة لم تولد من فراغ، بل تأسست منذ ما قبل انتهاء الحرب الأهلية، واستمرت بلا انقطاع، وتكيّفت مع تبدّل الإدارات الأميركية، ومع تغيّر أولويات السياسة الخارجية لواشنطن، ومع تعقيدات المشهد اللبناني نفسه. لكن المؤكّد أيضاً أن هذا النفوذ، حين يُستخدم ضد الدولة اللبنانية أو حين يصبح جزءاً من صراع داخلي، يأخذ معنى «بخّ السُّم» الذي تحدّث عنه رئيس الجمهورية. ذلك أن أي تأثير مباشر على القرارات الأميركية المتعلّقة بلبنان، حين يكون موجهاً لإضعاف مؤسسات الدولة أو للمطالبة بعقوبات تمسّ الاقتصاد والمجتمع، لا يمكن فصله عن سياق «اللوبي» التاريخي الذي بنته القوات اللبنانية، ولا عن الوظيفة السياسية التي حاولت من خلالها أن تجعل واشنطن طرفاً داخلياً في السياسة اللبنانية، سعياً لتحقيق طموحات «إمبراطورية» في «المحميّة اللبنانية».













