الإنقلاب على اتفاق وقف الأعمال العدائية
مع انتهاء الحرب في لبنان أواخر العام 2024، وعلى مدى أيّامٍ وأسابيع، عُمِل على ترسيخ صورةِ هزيمةٍ وتحميلِ مسؤوليّتِها للمقاومة، بهدف السماح للكيان الإسرائيلي بتحقيق ما لم ينجح في تحقيقه خلال الحرب. ويبدو ذلك واضحًا عند متابعة مسار الأحداث منذ اليوم الأوّل للهدنة وبعد مرور أشهرٍ عليها.
* *أين كان أهالي الجنوب والجيش اللبناني في 27 تشرين الثاني/نوفمبر؟*
مع دخولِ وقفِ إطلاقِ النار حيّزَ التنفيذ يوم الأربعاء في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بدأ الجنوبيّون يصلون إلى قراهم التي فشل الجيش الإسرائيلي في دخولها أمام تصدّي المقاومة، وكذلك التي دخلها خلال فترة الحرب، بل وصل بعضهم إلى كفركلا وحولا (تمكّن البعض من الوصول إلى موقع العباد هناك) وعيتا الشعب والخيام. وأظهرت مقاطع مصوّرة وجودهم على مقربةٍ من دباباتٍ إسرائيلية، ونزعهم لعلمٍ إسرائيليٍّ عن خزانٍ يبعد 600 متر عن الحدود مع فلسطين المحتلّة.
أمّا الجيش اللبناني فأعلن في اليومين الأوّل والثاني لوقف إطلاق النار البدءَ في عمليّات الانتشار جنوبًا وفق ما جاء في الاتفاق، حتى ينسحب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي احتلّها ويعود السكان إلى قراهم. ووُثّقت مقاطع مصوّرة دخول آليّات الجيش اللبناني إلى بعض المناطق، لكن ولسببٍ غير مفهوم لم يُعلن الجيش اللبناني عن إكمال انتشاره في 29 و30 تشرين الثاني/نوفمبر، وتوقّفت الآليّات حينها في صور. كما أغلق الجيش الطريق في منطقة تلّ نحاس ومنع المواطنين من الدخول إلى بلدات كفركلا وحولا وميس الجبل وبلِيْدا والعديسة.
* *ماذا حدث خلال هذه الأيّام؟*
في مقابل هذا التباطؤ اللبناني في نشر الجيش أو حتى السماح للمواطنين بالدخول إلى قراهم كما حدث في اليومين السابقين، نشر الجيش الإسرائيلي يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر تحذيرًا للبنانيين من العودة إلى قرابة الـ62 قرية، كان من ضمنها قرًى لم يسبق أن أدرجها حتى خلال الحرب (بين 1 تشرين الأوّل/أكتوبر و12 تشرين الثاني/نوفمبر) ضمن القائمة التي أُمر سكانها بإخلائها، كبلدة كفركلا.
اللافت في الموضوع هو أنّ المقاومة الإسلاميّة كانت قد استهدفت آليّاتٍ للجيش الإسرائيلي عند بوّابة فاطمة التي تقع بالقرب من بلدة كفركلا، وذلك صباح يوم الهدنة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، لمنع الجيش الإسرائيلي من استغلال هذه الساعات الفاصلة واستحداث مواقع جديدة.
* *ما تفسير ذلك؟*
لا تختلف كثيرًا ظروف الجيش اللبناني وقدراته العسكريّة اليوم عن الظروف التي كان عليها بعد حرب تمّوز عام 2006، كما لا تختلف غطرسة الكيان الإسرائيلي حينها عن اليوم رغم ازدياد إجرامه، لكنّ الاختلاف الأساسي كان في القرار السياسي. فبعد حرب تمّوز مُنح الجيش الإسرائيلي، بناءً على القرار 1701 نفسِه، مهلةَ 60 يومًا للانسحاب من الجنوب ليحلّ محلّه الجيش اللبناني وقوّات اليونيفيل. حينها، وبالمقارنة مع الحرب الأخيرة، كان انتشار الجيش اللبناني أسرع سياسيًّا رغم الخروق والاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، واستطاع الأهالي العودة إلى قراهم خلال المهلة المتّفق عليها، على عكس ما حدث بعد الحرب الأخيرة.
* *كيف تدرّجت الخروق الإسرائيليّة بعد 30 تشرين الثاني/نوفمبر؟*
يُلاحظ أنّ الخروق الإسرائيليّة لوقف إطلاق النار في الأيّام الأولى، خصوصًا ما قبل 30 تشرين الثاني/نوفمبر، كان يصفها الجيش الإسرائيلي بـ"التحذيريّة" من خلال إطلاق الرصاص على سياراتٍ وأشخاصٍ "مشتبهٍ بهم"، لكنها بدأت تتصاعد بشكلٍ تدريجيّ مع بداية شهر كانون الأوّل/ديسمبر، وزادت حدّتها وعددها بعد سقوط نظام بشّار الأسد في التاسع من الشهر نفسه. فبدأت الاستهدافات المباشرة لأشخاصٍ داخل سياراتهم وعلى درّاجاتهم الناريّة، وللمنازل والساحات العامّة.
* *تدمير القرى الجنوبيّة خلال الهدنة*
عشرةُ أشهرٍ مرّت منذ توقيع اتفاقيّة وقف إطلاق النار، استغلّ خلالها الكيان الإسرائيلي الوضع القائم للإجهاز على ما بقي من القرى الجنوبيّة من منازل ومساجد ومدارس وأشجار، دون وجود ما يوقفه من قبل الدولة اللبنانيّة.
تؤكّد منظمة العفو الدوليّة في تقريرها "لا مكان نعود إليه: التدمير الهائل الذي أحدثته إسرائيل في جنوب لبنان" أنّ معظم التدمير جرى "بواسطة متفجّراتٍ مزروعةٍ يدويًّا وجرافاتٍ بينما كانت القوات الإسرائيليّة تسيطر على المناطق".
هذه التفجيرات، وبحسب ما تُشير البيانات، بلغ عددها خلال الهدنة أضعافَ ما كانت عليه خلال الحرب. فحتى تاريخ 18 شباط/فبراير 2025 (مهلة انتهاء الهدنة) بلغ عدد التفجيرات في بلدة كفركلا 48 تفجيرًا، كانت أربعةٌ خلال الحرب، وفي عيتا الشعب بلغت 46 تفجيرًا، في حين سُجّل تفجيران فقط خلال الحرب.
أمّا في بلدات ربّ ثلاثين والعديسة والطيّبة وبني حيان، فقد بلغت 14 و13 و11 و8 تفجيراتٍ على التوالي، في حين لم يستطع الجيش الإسرائيلي دخول أيٍّ منها خلال الحرب، ومُنع الأهالي من دخولها منذ اليوم الثالث للهدنة.
* *جرائم الحرب التي يبرّرها بعض اللبنانيّين*
لا يجد بعض اللبنانيّين حرجًا في تبرير الانتهاكات الإسرائيليّة لاتفاق وقف إطلاق النار، والتي تصل بحسب منظماتٍ دوليّةٍ إلى مستوى جرائم الحرب، مستفيدةً من صورة الهزيمة التي عُمِل عليها لأسابيع بعد انتهاء الحرب، وذلك على الرغم من أنّ القوانين الدوليّة لا تجد تبريرًا لهذه الانتهاكات.
وفق منظمة العفو، لا تُجيز الضرورة العسكريّة، بل حتى القهريّة منها، للقوّات المتنازعة التدميرَ واسعَ النطاق للممتلكات المدنيّة، كما يستمرّ في الحدوث في جنوب لبنان خلال الهدنة، من أجل تحقيق "أهدافٍ استراتيجيّةٍ عموميّةٍ أو تجريديّةٍ مثل الردع، أو منع الهجمات المستقبليّة، أو إضعاف الخصم اقتصاديًّا على المدى البعيد". كما لا يمكن لها تدمير الممتلكات لإنشاء منطقةٍ عازلة.
وفي المقابل، فإنّ من واجب الحكومة اللبنانيّة "أن تتحرّى فورًا جميع السبل القانونيّة الممكنة، ومن بينها إنشاء آليّة تعويضٍ محليّة، وأن تطالب بتعويضٍ من أطراف النزاع". كما عليها أن تعمل على مقاضاة الكيان الإسرائيلي على الجرائم المرتكبة في الجنوب اللبناني.