من بابور الرز الى اليوروبوندز ؛حين يصبح غوّار الطوشي بنكرجياً
عباس عطوي*
من منا لا يتذكر غوار الطوشة في "حمام الهنا"، يوم أقنع روّاد الحمام بكذبته الشهيرة عن غرق “بابور رز” على شواطئ سوريا، وأصبحت مقولة: “الرز راح ينقطع! الحقوا حالكن!” على كل لسان، وفي نهاية الحلقة، وجد غوار نفسه في طابور الرز محاولاً شراء حصته!
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يبدو أن غوار الطوشة أصبح "بنكرجياً" في لبنان. فخلال عشرة أيام فقط، شهدنا قفزة غير مبررة بأسعار سندات اليوروبوند اللبنانية، من 6% إلى 20% من قيمتها الإسمية. ثلاثة أضعاف! وكأن لبنان فجأة تحول إلى مسار ستينيات القرن الماضي، وعاد لاقتصاد ميشال شيحا و"سويسرا الشرق"!
من يعمل في أسواق السندات يعرف ان اليوروبوند التي توقّفت الدولة عن دفعها (defaulted)، تكون سيولتها ضئيلة جداً، وأي كمية شراء بمبالغ كبيرة نسبياً تؤدي إلى رفع السعر بسرعة. على سبيل المثال، إذا كان السند يتداول أسبوعيًّا بمئة ألف دولار وفجأة كان هناك طلبات بالسوق بأضعاف المبلغ، سيرتفع السعر بشكل جنوني!
لكن لنكن واقعيين: الديون السيادية المتعثرة لا ترتفع أسعارها فجأة، والسندات الصادرة عن الدولة العاجزة تمرّ بعملية معقّدة جداً ضمن عملية إعادة هيكلة (restructuring). وعلى عكس أداء الحكومة اللبنانية، فهي لا تزال بعيدة جدًّا عن أي خطة وأي مفاوضات وأي إصلاح حقيقي.
ومع ذلك، طالعتنا وكالة "بلومبرغ" بمقالة تحاول فيها إقناعنا أنّ لبنان على أبواب "نهضة"، وأنّ الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية الجديد يريدان دفع عجلة التنمية! لا أدري أي عجلة؟ عند مراجعة مشاريع القوانين، لا نجد سوى قانون يتيم لتعديل السرية المصرفية، فيما تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في حزيران الماضي يؤكد أنّ الإصلاحات لم تتحقّق، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي مشروع لم ينضج بعد (مع قناعتي أنّ السياسيين وأصحاب المصارف لن يسمحوا به)، أما مشروع إخراج الاقتصاد من الكاش فحدِّث ولا حرج.
حسناً، ماذا حدث إذاً؟
الحقيقة لا تحتاج عبقرية آينشتاين. من يعرف مزاج "المصرفيين" يدرك أن هذه القفزة في أسعار السندات هي في الحقيقة "طبخة بحص" بامتياز. ومن يملك أكثرية هذه السندات أصلًا هي المصارف اللبنانية، والأكيد أنّ بعض المصارف قرّرت خلق حركة وهمية في السوق ورفع أسعار السندات. تخيلوا غوار الطوشة وهذه المرة، لكن ببدلات "Armani".
السيناريو المتخيل يكون على شاكلة غوار - حسني البورظان:
– غوار: "خلينا نرفع أسعار السندات شوي، منبيعها للدولارات الفرش!” ومنواكب الحكومة بخطوة فرض حصرية السلاح، هيك منزيد شرعية القرار كون الاقتصاد رح يولع!"
– حسني: "بس الدولة مفلسة يا غوار!"
– غوار: "ولا يهمك، منعملها مبادرة إصلاحية، ومنخلي الشباب يدقوا للصحافيين الأجانب ويعطوهم معلومات، والعالم بيصدق!"
أما الحكومة اللبنانية، فمشغولة بمشروعها العظيم: حصرية السلاح، وتبيع الوهم "للمجتمع الدولي"!
في النهاية، ما أشبه اليوم بالأمس: "بنكرجية" اليوم هم غوار الطوشة الأمس، لكن الفرق أنّ غوار كان يضحِكُنا، وهؤلاء يبكوننا ويفلسوننا، ويخلقون سردية متخيَّلة عن نهوض اقتصادي وإصلاح وارتفاع أسعار سندات مفلسة… وإن شاء الله يكون مصيرهم على الأقل مثل مصير غوار وحسني البورظان: يقفون بالطابور ليجدوا أنفسهم قد صدقوا كذبة ألفوها بأنفسهم لتتحقّق جملة:
It’s not a lie when you believe it!
*باحث اقتصادي