عيترون الحدودية بعد العدوان: ٨٠٠ عائلة عادت وجهود مجتمعية تليق بها الحياة والعزة
هاشم السيد حسن
منذ انسحاب القوات المعتدية في الثاني من شباط 2025، بعد حراك شعبي متواصل عند مداخل البلدة، بدأت عيترون تستعيد شيئًا من أنفاسها. صورة البلدة حينها كانت مزدوجة: شوارع منهكة، أحياء شبه مدمّرة، وفي المقابل عائلات تحمل المعاول والمواد الأولية، تعيد ترميم المنازل وإحياء المرافق، رافضة أن تتحوّل إلى منطقة منكوبة بلا أفق.
-- عودة السكان رغم التهديدات المستمرة
مع توقف العمليات العسكرية، بدأت موجة عودة تدريجية إلى البلدة. حتى مطلع تموز، تجاوز عدد العائلات العائدة 800 عائلة، وترافقت هذه العودة مع إعادة تشغيل عشرات المصالح الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة من متاجر، ورش صناعية، مهن حرفية وعيادات. هذا الحراك التجاري والاجتماعي بدأ يُرسم في شوارع كانت شبه فارغة قبل أشهر.
ومع ذلك، لم تغب التهديدات. فالبلدة تقع في مواجهة موقع عسكري صهيوني مستحدث- احدى الخمس نقاط- موقع جل الدير الواقع أعلى جبل الباط،، إضافة إلى مراقبة مباشرة من موقع المالكية شرقًا. هذه النقاط تفرض واقعًا أمنيًا هشًا، تظهر آثاره في الغارات المتكررة بالطائرات المسيّرة، وإلقاء القنابل الصوتية من المحلقات والرصاص التحذيري باتجاه الأطراف الزراعية للبلدة.
-- الزراعة بين الإحياء والتحفّظ
كانت الزراعة من أبرز مظاهر الحياة التي حاول الأهالي استعادتها فور عودتهم. جرى حرث عشرات الحقول، وزُرعت شتول التبغ التي تُعدّ جزءًا من إرث عيترون الزراعي، بالإضافة إلى زراعات موسمية وبعلية.
لكن هذه العودة الزراعية لا تزال ناقصة. فغالبية المساحات الزراعية تقع جنوبي شرقي البلدة، وهي مناطق لا تزال عرضة للتهديد بسبب التمشيط الإسرائيلي ورصاص الاستهداف. لذلك، بقيت الزراعة في حالة انتعاش جزئي، تعكس رغبة في الحياة لكنها لا تخلو من الحذر.
-- مشاريع تأهيل مدفوعة بالتكافل الأهلي
في ظل الغياب شبه الكامل لمؤسسات الدولة الرسمية، نجحت بلدية عيترون، بالتعاون مع الأهالي والمغتربين، في جمع أكثر من 500 ألف دولار لتمويل مشاريع التأهيل وإعادة البناء خلال الفترة الممتدة من شباط وحتى نهاية أيار. هذه المشاريع شملت:
- تزويد البلدة بسيارتَي إسعاف لخدمة الحالات الطارئة
- جرافتين صغيرتين لمعالجة الأضرار ورفع الردميات
- عدة سيارات بيك أب لنقل الركام والمساهمة في الترميم
- إعادة تشغيل الآبار الارتوازية ومحطة مياه الشرب في الساحة العامة بأسعار رمزية
- صيانة شبكة الكهرباء وتشغيل المولدات
- إطلاق مشروع إنارة طرقات البلدة بالطاقة الشمسية
-- الدولة... حضور محدود وعتب كبير
رغم الحاجة الماسّة للدعم الرسمي، لا تزال مؤسسات الدولة اللبنانية غائبة عن البلدة، باستثناء مجلس الجنوب وشركة كهرباء لبنان اللتين تُظهران حضورًا في المشهد الخدمي.
من جهة أخرى، بادرت مؤسسة جهاد البناء إلى دفع جزء من التعويضات، ما أسهم في تسريع عودة عشرات العائلات، فيما ينتظر الكثيرون استكمال الدفعات لمتابعة أعمال الترميم.
-- نبض الحياة في وجه العتمة
عيترون اليوم ليست مجرد بلدة استعادت بناءها، بل أعادت نسج روابطها المجتمعية. في كل منزل رُمّم، وفي كل متجر عاد للعمل، وفي كل حقل نبتت فيه شتلة التبغ، تختزن البلدة مشهدًا يوميًا من الصمود. ليست القوة في عدد المشاريع المنجزة، بل في عمق التعلّق بالجذور، وفي قدرة الناس على تحويل التهديد إلى فعل بناء.
لم تنتظر هذه البلدة وعودًا رسمية ولا خططًا مركزية، بل راهنت على أهلها، على تكافلهم، وعلى تلك العائلات التي قالت بوضوح: "لن نرحل" يحرسهم نبض مقاوم وارواح شهداء تزين سماء البلدة ومنتصرة على ارادة العدو.
وسط هذا كله، تبقى عيترون حكاية من الجنوب الحيّ... حكاية أرض لا تُنسى، وأهل لا يُهزمون.