8 سنوات على خطف سعد الحريري: لبنان -كلّه- لا يزال في سجل بن سلمان.
بقلم: حسن علّيق
في الرابع من تشرين الثاني 2017، اختطف رأس النظام السعودي، ولي العهد محمد بن سلمان، رئيسَ حكومة لبنان، سعد الحريري، وأجبره على تقديم استقالته عبر قناة "العربية" السعودية.
ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم غير مسبوق على المستوى العالمي، في التاريخ الحديث. لم يفعلها أحد قبل بن سلمان، ولم يكررها أحد بعده: أن تخطف دولةٌ رئيسَ حكومة دولة أخرى. يُضاف إليها أن يمرّ ذلك بلا أي عواقب على الخاطف.
هذا العمل لا يمكن تصنيفه في مرتبة أدنى من إعلان الحرب. لكنه لبنان، حيث الانبطاح للنظام السعودي، وللغرب، هو عين السلوك "السيادي". والقوى التي تنتحل صفة "السيادية"، وعلى رأسها القوات اللبنانية، كانت جزءًا من المؤامرة على رئيس حكومة لبنان حينذاك.
بعد جريمة اختطاف الحريري، شنّت قوى سياسية لبنانية، سيادية بحق، حملة أدّت إلى إطلاق سراحه، وضمان رجوعه إلى لبنان، حيث طوى صفحة استقالته وعاد إلى ممارسة العمل السياسي.
في العامين 2018 و2019، كان الجميع يعتقدون أن يد وليّ العهد السعودي قد كُفَّت عن لبنان، ولو جزئياً. لكن، وبعد 17 تشرين الأول 2019، عاد محمد بن سلمان ليكشّر عن أنيابه، فوضع - بالتكافل والتضامن مع الولايات المتحدة الأميركية - كلّ ثقله لإزاحة الحريري من المشهد السياسي… فكان له ما أراد. خرج الحريري من السلطة، ثم من العمل السياسي، وصولاً إلى العزوف عن مشاركة تيار المستقبل في الانتخابات النيابية عام 2022.
خروج سعد الحريري، صاحب الشعبية الأوسع بين اللبنانيين المنتمين إلى الطائفة السنية، خلق فراغاً كبيراً ملأه النظام السعودي. فصحيح أن السلطة اللبنانية لا تتكوّن وفقاً لموازين القوى الداخلية وحسب، وصحيح أيضًا أن الخارج له اليد الطولى في بناء السلطة السياسية في لبنان، وهو ما شهدناه بوقاحة قل نظيرها في العام 2025 (تكفي مراجعة تصريحات النائب سجيع عطية في هذا الصدد)... إلا أن كل ذلك لا يلغي أهمية موازين القوى الداخلية، المعبَّر عنها بالانتخابات النيابية، بصفتها الأساس الذي تُبنى عليه السلطة. ففي النهاية، من يحظى بتأييد نصف المجلس النيابي، يمكنه اختيار رئيس للحكومة، ولو في تحدّ مكلفٍ للخارج. ومَن في يده ثلث أصوات المجلس، سيعطّل وصول مرشح الخصوم إلى الرئاسة.
من هنا تحديدًا، كانت أهمية إقصاء الحريري عن الحياة السياسية. فقد سمح ذلك بهندسة أكثرية مجلس النواب وفق مشيئة ساكن قصر اليمامة.
لا يمكن النظر إلى الحريري بصفته عنوان التحدي للنظام السعودي أو ل"بن سلمان". على النقيض من ذلك، كان الشيخ سعد طامحاً إلى نيل رضا ذلك النظام ورأسه. إلا أن ما ميّز ابن الرئيس الشهيد رفيق الحريري هو أن الجانب اللبناني في هويته طغى على جانبه السعودي، إذ رفض جرَّ البلد إلى حرب أهلية أرادها بن سلمان. وهو إنْ عاد إلى العمل السياسي، فإنه لا شك سيستمر في مساعيه ليكون "الوكيل الحصري" لأنظمة الخليج في بيروت، إنما من دون أن تصل تلك "الوكالة" إلى إلغاء "الأصالة" الممنوحة له للحفاظ على لبنان واللبنانيين… وبالدرجة الأولى، الحفاظ على الشريحة التي منحته ثقتها.
بعد 8 سنوات على اختطاف الحريري، لا يزال كما لو أنه لم يُحَرّر في العام 2017. الموفد السعودي يزيد بن فرحان يقول إنه يتمنى أن يخوض تيار المستقبل المعركة الانتخابية في كل المناطق اللبنانية عام 2026، "لكي نريه حجمه الذي لن يتجاوز نائبين أو ثلاثة نواب". أما السفير السعودي وليد البخاري، فلا يخجل من أن يُبلغ "أصدقاء المملكة" في لبنان بأن "كل سياسي يدّعي أنه صديق للمملكة لا يمكنه أن يكون متعاوناً مع سعد الحريري أو الجماعة الإسلامية أو حزب الله". وعندما يُسأل أكثر، يؤكد البخاري أن نظامه "لا يمانع أن تخوض السيدة بهية الحريري الانتخابات في صيدا"! النظام الذي يحظر على الذين يحكمهم أي شكل من أشكال الاقتراع، ويستند إلى نظام البَيعة غير الاختيارية لوليّ الأمر، يحدّد للبنانيين اسم رئيسهم ورئيس حكومتهم وشكل قانون انتخابهم وأسماء نوابهم… ولا يخفي نيته إلغاء وجود آل الحريري. إلغاء يقوم مقام الاغتيال الجسدي، على طريقة الانقلابات التي تنصّب الدمى محلّ الحكام الشرعيين. وبعد سنوات، تُصبح تلك الدمى واقعًا يصعب تجاوزه، بحُكم قوة التوقيع الرسمي، أو بموجب قانون النسيان والاعتياد. أما من كان يحظى بثقة ناسه، فيختفي أثره تماما.
الفراغ الذي خلّفه تغييب الحريري ونتائج الحرب على لبنان وسقوط النظام السوري السابق في دمشق… كلها عوامل أتاحت للنظام السعودي فرصة للهيمنة لم يشهد لها لبنان مثيلاً. ليس الحديث هنا عن نفوذ سعوديّ كان وسيبقى، ولا عن مصالح سعودية "طبيعية". بل إنّ مستوى الإطباق السعودي على الحياة السياسية اللبنانية وصل إلى حد أنه يكاد يخنقها.
في العام 2017، تحرّر الرئيس الحريري من "معتقل" بن سلمان، لينتقل في العام 2022 إلى المنفى الذي قَبِل به ولي العهد. وفي العام 2025، بات لبنان كلّه، خلف قضبان بن سلمان. ليست عودة الحريري إلى العمل السياسي ما سيحرّر وطنه. لكنها قد تكون، رمزيًا ربما لا واقعيًا، خطوة على طريق تأكيد أن لبنان لن يكون متاعًا تتوارثه سلالة ابن سعود.