السيد حسن نصر الله: قائد المظلومين في مواجهة الاستكبار
بقلم: د.محمد حسن سويدان *
في دراسات القيادة، يُوصف القائد الذي يؤثّر على جماعات متباينة داخل حدود وطنه وخارجها بـ"القائد متعدّد المستويات" أو “العابر للحدود (Transnational leader/ Multilevel Leader). وبحسب الدراسات هناك أنماط معيّنة من القيادة —خصوصًا "القيادة الكاريزمية/القيميّة"— تحظى بقبول واسع عبر الثقافات لأنها تربط بين الرؤية الأخلاقية والعمل الجمعي وتُشعر الأنصار أو المؤيّدين بأنّهم جزء من قضية أكبر من انتماءاتهم الضيّقة. هذه الفكرة تساعدنا على فهم كيف يمكن لشخصيّة محليّة، مثل السيد حسن نصر الله، أن تكتسب صدىً إقليميًّا وعالميًّا عندما تُصاغ رسالتها أخلاقيًا حول "نُصرة المظلومين" ومقاومة "الهيمنة".
ومن زاوية علم الاجتماع السياسي، يعرّف ماكس فيبر "السلطة الكاريزمية" بأنها شرعيّة تنبع من الجاذبية الشخصيّة والرواية الأخلاقية التي يُقدّمها القائد في لحظة أزمة—فتخلق ولاءً يتخطّى المؤسّسات التقليدية. وهذا يفسّر لماذا تُصبح بعض القيادات، كالسيد نصر الله، رموزًا عابرةً للحدود عندما تتبنّى خطابًا كونيًّا يَعِدُ بالعدالة للمستضعَفين.
نصر الله كقائد متعدّد المستويات: ثلاث دوائر تأثير مترابطة
1. الدائرة الإسلاميّة-القيميّة:
قدّم السيد حسن نصر الله طوال مسيرته نموذجًا خاصًا في سعيه لإظهار الإسلام الصحيح، إسلام يتجاوز الصور النمطية التي حاول خصومه وخصوم الأمة إلصاقها بالدين. فبالنسبة له، الإسلام ليس شعارات فارغة ولا ممارسات مشوّهة تبرّر العنف الأعمى أو تخدم مصالح القوى الكبرى، بل هو رسالة أخلاقية وإنسانية عالمية جوهرها العدالة والكرامة ومقاومة الاستكبار. وقد شدّد السيد نصر الله في خطبه العديدة على أن الإسلام الذي يطرحه هو إسلام مقاوم، لكنه في الوقت ذاته إسلام رحيم يُعلي من قيمة الإنسان ويحفظ التعايش بين الأديان والمذاهب. ومن هنا، كان يرفض باستمرار محاولات الغرب وبعض الأنظمة العربية تقديم الإسلام كمرادف للإرهاب أو كقيد على الحريات. وأكد السيد نصر الله أنّ هذه الحملات الإعلامية والسياسية ليست سوى أدوات في مشروع أوسع لتشويه صورة الإسلام وفصله عن شعوب العالم، بحيث يصبح الإسلام مرادفًا للخوف بدلًا من أن يبقى دين الرحمة.
من هنا، سعى السيد نصر الله إلى تقديم صورة مغايرة تمامًا لما يحاول الغرب تقديمه:
الإسلام الذي يواجه الظلم في فلسطين، ويقف مع المظلومين في أي مكان، من البوسنة إلى إفريقيا وقطاع غزة، ويجمع بين القيم الروحية والالتزام العملي بالحرية والسيادة. ولعل أبرز ما يميّز طرحه أنّه لا يكتفي بالدفاع النظري، بل يربط صورة الإسلام بالفعل المقاوم، بحيث يرى الناس في ممارسات المقاومة نموذجًا حيًا للقيم الإسلامية الحقيقية. بهذه الطريقة استطاع أن يزرع وعيًا مختلفًا، وأن يقدّم الإسلام كقوة تحرّر لا كأداة قمع، في مواجهة كل محاولات التشويه التي أرادت اختزال الدين في جماعات متطرفة أو أنظمة استبدادية.
2. الدائرة اللبنانية الداخليّة:
شكّل السيد حسن نصر الله شخصية محورية في تاريخ لبنان الحديث، إذ ارتبط اسمه بمسار المقاومة والتحرير من الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وبخدمة الناس وتثبيت مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة أخرى. فقد قاد المقاومة الإسلامية في لبنان خلال أصعب المراحل، وكان له دور أساسي في تحقيق الانتصار التاريخي عام 2000 الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة دون قيد أو شرط، وهو إنجاز وطني سجّل للبنان ككل، لا لطائفة أو حزب بعينه.
إلى جانب هذا الدور العسكري والسياسي، حرص السيد نصر الله على أن تكون المقاومة حاضرة أيضًا في خدمة المجتمع اللبناني بجميع مكوّناته، بعيدًا عن أي تمييز طائفي أو مذهبي. فالمؤسسات التابعة لحزب الله قدّمت خدمات صحية وتعليمية واجتماعية في مختلف المناطق، ووصلت مساعداتها إلى شرائح واسعة من اللبنانيين، ما عزّز صورة المقاومة كجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع اللبناني. ولعل أحد أبرز الأمثلة هنا هو الدور الذي لعبه حزب الله أثناء أزمة الطاقة في عام 2021 حين جلب نفط من إيران وقام بتوزيعه في مختلف المناطق اللبنانية دون أي تمييز.
كما لعب السيد نصر الله دورًا جامعًا عبر خطاباته التي شدّدت دائمًا على وحدة الشعب اللبناني وعلى أهمية العيش المشترك، معتبرًا أن المقاومة ليست حكرًا على فئة معينة، بل هي مسؤولية وطنية وأخلاقية. ومن خلال حضوره الشعبي وأسلوبه القريب من الناس، استطاع أن يجسّد مفهوم القيادة التي تجمع بين الدفاع عن الوطن ورعاية مصالح الناس اليومية. هذا التوازن بين مشروع التحرير ومشروع الخدمة الاجتماعية منح المقاومة شرعية مضاعفة، ورسّخ مكانة السيد نصر الله كقائد وطني عابر للطوائف، ينطلق من هموم الشعب اللبناني كافة ويعمل على حماية سيادته وكرامته.
3. الدائرة العالمية/العابرة للحدود:
لعب السيد حسن نصر الله دورًا عالميًا في نصرة المظلومين، إذ تجاوز حضوره حدود لبنان والمنطقة ليصبح رمزًا للمقاومة في مواجهة الاستكبار العالمي. لم يقدّم نفسه كقائد لبناني أو حتى إقليمي فحسب، بل كصوت للمقهورين في كل مكان، مؤكدًا أن المسؤولية الأخلاقية لا تتوقف عند الحدود القومية، بل تتعداها إلى حيث يوجد ظلم واضطهاد. ففي خطبه المتعددة، كان يربط الصراع مع إسرائيل بالمعركة ضد الاستعمار الأميركي، ويستحضر قضايا من إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، ليؤكد أن المقاومة مشروع إنساني عالمي. جعل هذا الطرح حركات تحرر عديدة تعتبره حليفًا معنويًا لها، فقد رُفعت صوره في مظاهرات من نيجيريا حتى فنزويلا، وتحوّل إلى أيقونة شعبية لدى شريحة واسعة من الشعوب المضطهدة حول العالم. فعلى سبيل المثال، خرجت حشود ضخمة في نيجيريا عام 2015 تحمل صوره إلى جانب صور الشيخ إبراهيم الزكزكي، زعيم الحركة الإسلامية هناك، معتبرة نصر الله مرجعًا في الصمود. كما أنّ استطلاع للرأي أجرته جامعة ماريلاند الأميركية عام 2008 أظهر أن السيد نصر الله كان أكثر القادة إعجاباً في العالم العربي، حيث اعتُبر رمزًا للمواجهة مع الهيمنة الغربية. حتى في أميركا اللاتينية، وخصوصًا فنزويلا وبوليفيا، تكررت الإشارات إليه في الإعلام كقائد يقف في صف المستضعفين ضد الإمبريالية. هذا البعد العالمي لم يكن مجرد خطاب، بل أعاد تعريف المسؤولية الأخلاقية بحيث لم تعد مقتصرة على حماية الشعب اللبناني فقط، بل باتت تشمل الدفاع عن المظلومين أينما كانوا، ما عزّز صورته كقائد يتجاوز القوميات ويجسّد فكرة التضامن الإنساني العابر للحدود.
وقد كان خطاب نُصرة المظلومين هو العمود الفقري لصورة السيد نصر الله كرمز أخلاقي عمل على تأطير "مظلوميّة عالميّة" معيارها أخلاقي لا هويّاتي. كما كان خطاب السيد نصر الله دائمًا ما يربط المواجهة مع "إسرائيل" بمنظومة استكبار عالمي أوسع من منطقتنا وكان يؤكّد أن الصراع ليس محليًا، بل جزء من بنية هيمنة عالمية، وهذا بالضبط ما منح خطابه قابلية عبور الحدود.
السيد نصر الله في سلالة القادة الكونيّين
إذا جمعنا خيوط الدوائر الثلاث—القيميّة، والوطنيّة، والعابرة للحدود—برزت أمامنا «معادلة القائد المؤثّر» التي تُنتج أثرًا يتجاوز الجغرافيا: قيمةٌ أخلاقيّة واضحة، وقضيةٌ جامعة، وقدرةٌ تنظيميّة منضبطة، وكلفةٌ يُدفع ثمنها عن وعي. بهذه المعادلة وقف السيّد حسن نصر الله في سلالةٍ تاريخيّة من قادةٍ كان تأثيرهم كونيّ.
فكما بنى نيلسون مانديلا شرعيّته على معيار العدالة والقدوة الأخلاقيّة (العدالة/القدوة) لا على الثأر، رسّخ السيد نصر الله سرديّة «نصرة المظلوم» معيارًا يتقدّم على الهويّات الضيّقة.
وكما ربط هو تشي منه التحرّر الوطني بحركة أمميّة مناهضة للاستعمار (التحرّر القومي/الأمميّة)، قرأ السيد نصر الله ساحات المنطقة—من فلسطين إلى اليمن وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة—بوصفها حلقاتٍ في سلسلةٍ واحدة ضدّ منظومة الهيمنة.
وكما مزج هوغو تشافيز سياسات السيادة بالعدالة الاجتماعيّة (السيادة/العدالة الاجتماعيّة) فحوّل الخطاب إلى مؤسّساتٍ وخدمات، زاوج السيد نصر الله بين «المقاومة» وخدمة الناس وشبكات الرعاية، بحيث يصبح الدفاع عن الأرض وجهاً من وجوه صون المجتمع.
وعلى خُطى قادةٍ دينيّين ثوريّين جعلوا الإيمان إطارًا تعبويًّا للتحرّر، قدّم السيد نصر الله دينًا أخلاقيًّا عمليًّا: قيمةٌ تُقنع لا شعارٌ يُرفع.
الخلاصة أنّ تجربة السيد نصر الله ليست «حالة لبنانيّة» فحسب، بل امتدادٌ مُعاصِر لنمطٍ تاريخيّ أثبت فاعليّته. فحين تُصاغ المقاومة كعقدٍ أخلاقيّ جامع، وتُدار كقدرةٍ مؤسّسيّة منضبطة، تتحوّل من ردّ فعلٍ محلّيّ إلى مرجعيّةٍ عابرة للخرائط تجعل من قصّة شعبٍ بعينه فصلًا مُلهِمًا في كتاب مقاومة الظلم عالميًّا.
*كاتب وباحث في العلاقات الدوليّة