الهجرة اللّبنانية.. تصدير المواطن في نظام الريع
د.نغم خنافر
يرافقنا دومًا ذاك الفولكلور البائس الذي يحتفي بهجرة العقول! من أخطر ما يُروّج له في لبنان هو اعتبار "هجرة العقول" مصدر فخر واعتزاز، فيما الواقع أن الهجرة ليست نجاحًا وطنيًا ولا إنجازًا، بل جرح مفتوح في جسد الوطن وفي قلب كل عائلة من الشمال الى الجنوب.
يكاد لا يوجد في لبنان بيت إلا وحمل معه حكاية هجرة، أو حلم كل ليلة بالعودة، حتى لو إلى التراب فقط، عند رحيل الروح. في الجنوب كانت الهجرة هروبًا من آلة القتل الصهيونية وعملائها. في مناطق أخرى، كانت هروبًا من القتل على الهوية. وحتى بعيدًا عن الحرب، كانت محاولة للبحث عن باب رزق أغلق... النتيجة واحدة: بلدٌ يُفرّغ من طاقاته البشرية.
أنا شخصيًا كبرت في عائلة معظم أخوالي فيها مهاجرون منذ صغر أمي. لم أعرف معظم أقاربي إلا في سن المراهقة، وكانت عودتهم في الصيف بمثابة عيد. كنت أقول لنفسي: “لن أهاجر إلا للدراسة وسأعود حين أنهي شهادتي"، لكنني وجدت نفسي أبحث عن فرصة بلا جدوى، أطرق كل الأبواب بلا نتيجة. لم يكن سلاحي سوى علمي ودعاء والديّ. في النهاية، أصبحت جزءًا من الفئة التي لم أرغب يومًا أن أنتمي إليها.
الهجرة أحيانًا قدرٌ لا مفرّ منه. لكن المصيبة أن تُقدَّم كفخر وطني. أي فخر في أن نقول أننا “نُصدّر العقول”؟ هل الفقر والعجز عن تأمين أبسط حقوق الناس مدعاة للفخر؟ هذا يعني ببساطة أننا نخسر أهم مواردنا بينما تستفيد الدول الغنية من تعليمنا وخبراتنا مجانًا.
القطاع الصحي مثال واضح. يمكن لبلد أن يستمر بنقص في بعض المهن، لكنه لا يستطيع أن يعيش بلا أطباء وممرضين. ومع ذلك، نرى نزيفًا يوميًا لهؤلاء الكوادر. البعض يبرر هجرته بالقول: “الدولة لم تدفع عليّ شيئًا” وهذه مغالطة كبيرة. فالقطاع العام (رغم عيوبه الكثيرة) ليس بلا كلفة. قبل الأزمة التي أدارها من سلّمه الغرب وسام أفضل حاكم) كانت رواتب الأساتذة والمعلمين في لبنان أعلى من مثيلتها في فرنسا، سابع اقتصاد عالمي. وحتى من درس في مؤسسات خاصة، فإن عائلته تحملت كلفة هائلة لتكوينه، وحلمت بقضاء العمر معه بعد تخرّجه. ثم تأتي دولة غنية لتقطف كل هذا الجهد بكلفة لا تُذكر، بينما هي تنفق المليارات على تكوين كوادرها الوطنية.
الأدهى أن المهاجر، خصوصًا أصحاب الشهادات المقدمة، غالبًا لا يعيش "الحلم" الذي يتخيله. يبدأ من الصفر تقريبًا، براتب أقل من قيمته، ويقضي سنوات قبل أن يحقق أي تدرج وظيفي. ومن يهاجر بعد الثلاثين، في كثير من الحالات، يخسر فرصة معاش تقاعدي كامل لأنه لا يستوفي سنوات الخدمة المطلوبة. أي “فوز” هذا؟
هذا النزيف البشري المسمّى "هجرة العقول" ليس مجرد صدفة، بل أصبح أداة تستخدمها الدول الغنية لتأمين اليد العاملة الماهرة بأرخص كلفة. أما الدول الفقيرة، فتُترك بمستشفيات جميلة المباني (مرهونة للبنك الدولي بفوائد عالية) لكنها فارغة من الكوادر الأساسية. هل فكّرنا أنّ أحبّاءنا لن يجدوا طبيبًا يداويهم؟ومع ذلك، ما زلنا نغرق في استهلاكٍ سطحي: حفلات، موائد، مظاهر، وكأن الهجرة ليست مؤشر انهيار شامل.
إنها خسارة مزدوجة: نخسر أبناءنا وخبراتهم، ونكسب وهمًا زائفًا اسمه "الفخر بتصدير العقول".
أي مخلوقات تحتفي بخسارة ما هو أثمن من كل ثروة؟ الهجرة ليست إنجازًا، بل وجع يُباع كإنجاز مع مجموعة امتهنت بيع كل شيء… حتى كرامتها.