عن مجد أيلول: حين طوّع القائد أبوّته.. وارتدى وجه المحارب
سبعة وعشرون عامًا مرّت قبل التحاق الأصل بالفرع ولقاء الأب بالإبن المسافر إلى البعيد، يوم جُنّ الصديق قبل العدو كيف طوى الأب أبوّته ووضعها على رف الانتظار وارتدى وجه المحارب الصلب في تأبين فلذة كبده. ازدحمت حبات العرق على جبينه وانحدرت على نظارته كأنها القطرات القليلة التي تعتصرها الغيوم الممزقة في منتصف أيلول، لكنه امتلك ما يكفي من الشموخ في لحظات المحنة كي لا يمسحها ويمنح المتربصين لقطةً يسوقونها كفكفة دموعٍ وانكسار! ووقف برباطة جأشٍ نادرة، لا ناعيًا أو آسفًا، بل شاكرًا لله أن ضمّه وعائلته إلى عوائل الشهداء.
رفض، بصمتٍ، أن يُميّز إبنه في بداية المشوار، فجعل منه مقاتلًا يقارع الاستكبار وينشد الحرية بفوهة بندقيته وعرقه ودمه، ولم يجعل منه وزيرًا أو مديرًا أو رجل مالٍ وأعمال، لكن صورة الإبن مدمىً معفّرًا بالتراب على سفح الجبل الرفيع كسرت الصمت وقدمت للعالم نموذجًا فريدًا في التاريخ، زعيم أكبر منظمةٍ عسكريةٍ في العالم يضع إبنه في فم الوحش مقاتلًا في الخطوط الأمامية الأولى يصافح الموت كل يوم ويفترش التراب الندي في ليالي أيلول الباردة.
حلّق هادي بوجهه الملكوتي وروحه الذائبة في المقاومة إلى حد نكران الذات، فكان بحق طائر أيلول المهاجر إلى حيث أحب. الإبن الذي لو شاء لامتلك مفاتيح أكثر الحيوات دعةً وراحةً في بلدٍ يعيش فيه أبناء الزعماء كأنصاف آلهة دون أن يقدموا شيئًا، بل دون أن يتورّعوا عن أخذ كل شيء، قرر ألا يعيش إلا جنديًا مخلصًا للأرض في "جيش" الأب الواثق من استقامة الطريق كثقة المسيح بماء البحيرة الهائج تحت قدميه.
وانجلى غبار مواجهات جبل الرفيع ليل الثاني عشر من أيلول 1997 عن ثلاثة شهداء للمقاومة وعدة عناصرٍ من الجيش اللبناني بينهم ضابط. واجه عناصر "إيغوز" النخبويين أشرس مقاومةٍ اختبروها في حياتهم من ثلاثة شبانٍ آثروا أن يرتقوا الواحد تلو الآخر، بعد تدخل المروحيات على أن يتراجعوا شبرًا واحدًا إلى الخلف، لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في شراسة مقاتلي المقاومة الذين اعتادت "إيغوز" على بسالتهم، بل في هويةِ أحد الشهداء الذين أُسرت جثامينهم لاستبدالها بأشلاء كمين أنصارية.
ظنوا أنه "الجثمان الكنز" والورقة الرابحة التي سيدفع الأب ثمنها غاليًا وسيبادلها بما لا يخطر على بال، فعرضوا صورته بنشوةِ الرابح في سباقٍ صعب، لكنه كان تقديرًا خاطئًا آخر، فمن لم يميز إبنه حيًا لن يميزه ميتًا، وأخذ الجثمان طريقه إلى مقابر الارقام ليرقد أكثر من عام دون أن يقدم الأب أي عرضٍ لاسترداده، ولم يعد إلا بعملية تبادلٍ مشرفة كواحد من كلّ، لا كإبنٍ لقائد استثنائي.
يومذاك "رأينا الأبوة تُمتحن بالجهاد إلى درجة الشهادة ورأينا الجهاد يُمتحن بالأبوة إلى درجة البطولة" كما نطق "هيكل" بلساننا جميعًا.