الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة في جنوب لبنان: جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية
بقلم: دايان درويش*
منذ 27 نوفمبر 2024، ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" ولبنان حيّز التنفيذ، يحاول اللبنانيون التقاط أنفاسهم. فقد نص الاتفاق أنه وخلال شهرين، تنسحب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية، ما سمح بعودة أهل الأرض بعد أشهر من النزوح القسري حيث كان الأمل بعودة الحياة إلى طبيعتها تدريجيا بعد حرب قاسية وضروس مع عدو لا يعرف الرحمة.
أمل لم يكتب له أن يكتمل لأن هناك عدوًّا قرر أن يخرق الإتفاق حيث استيقظ أهالي بلدتي طالوسة وحاريص الجنوبيتين في الثاني من شهر ديسمبر على دوي انفجارات عنيفة، أودت بحياة ٩ أشخاص على الأقل، في جريمة لم تفصلها عن جريمة لاحقة أيام قليلة حيث تعرضت بلدتا بيت ليف ودير سريان للقصف المباشر من العدو الصهيوني والذي أسفر عن مقتل 6 لبنانيين.
لقد استند اتفاق 27 نوفمبر إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 (2006)، الذى ينص على التالي:
- خلو المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني من أي قوات مسلحة باستثناء الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل.
- وقف جميع الهجمات عبر الخط الأزرق.
- احترام كامل لسيادة لبنان وأجوائه.
كما أضاف الاتفاق الجديد جدولًا زمنيًا للانسحاب على أن تغادر القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية التي احتلتها بحلول 26 يناير 2025.
إلا أن الاعتداءات تواصلت. فحتى 13 فبراير 2025، أفاد خبراء الأمم المتحدة بمقتل ما لا يقل عن 57 مدنياً وتدمير 260 عقاراً منذ بدء سريان وقف إطلاق النار. وعند محاولات العودة، واجهت العائلات القصف والتدمير وحتى عمليات الخطف. وبعد انتهاء المهلة الأولى للانسحاب، قُتل 24 مدنيًا آخرين وأصيب 120، واستمرت الاعتداءات العنيفة حتى بعد تحديد مهلة جديدة للانسحاب في 18 فبراير 2025.
حتى يومنا هذا ارتكبت "إسرائيل" أكثر من 4,500 انتهاكًا لوقف إطلاق النار، وأسفرت اعتداءاتها عن مقتل أكثر من 400 مواطن لبناني.
وبحسب القانون الدولي، فإن المدنيين في جنوب لبنان يتمتعون بالحماية، ويحظر استهدافهم أو تدمير ممتلكاتهم إلا في حالة الضرورة العسكرية القصوى. ومع ذلك يُنتهك هذا المبدأ بشكل متكرر من قبل "إسرائيل"، كما يفاقم التطبيق الانتقائي للقانون من قبل المجتمع الدولي والدولة اللبنانية حجم هذه الانتهاكات.
كثيرون يطرحون السؤال التالي: ما الذي يمكن للقانون الدولي فعله في هذا السياق؟ السؤال وجيه، لكنه غير كافٍ. فالمسألة لا تتعلق فقط بما يتيحه القانون الدولي بل أيضًا بما لا يستطيع أن يتيحه لنا. فلا يجوز أن نطالبه بما يتجاوز حدوده. ولذا، لفهم الوضع كما ينبغي، يجب أن نطرح الأسئلة التالية:
1. ما هي طبيعة النضال الذي نريد خوضه في ميدان القانون الدولي؟
2. كيف يمكن صياغة استراتيجية تقاضٍ واقعية وفعّالة في هذا الميدان؟
3. وبأي شكل ينبغي على القانونيين أن يشاركوا في هذه العملية؟
إن القانون الدولي ليس مجرد نصوص وقواعد، بل أصبح، مثل الكثير من المجالات الأخرى، كيانًا له استقلاليته الخاصة ويحمل في طياته الانحياز والقيود، وقد يكون سجنًا أو بابًا مفتوحًا. يركز هذا المقال على الانتهاكات الجارية في جنوب لبنان ضد المدنيين وممتلكاتهم، تاركًا المسائل الفلسفية الأوسع حول سيادة الدولة وكيفية إستغلال القانون الدولي لمناسبة أخرى.
عند الحديث عن أخطر الانتهاكات، لا بد من التمييز بين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فجرائم الحرب هي الانتهاكات الجسيمة لقوانين وأعراف النزاعات المسلحة أي ما يُعرف بالقانون الدولي الإنساني، مثل استهداف المدنيين أو تدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية أو تهجير السكان بالقوة. ويكفي لاعتبار الفعل جريمة حرب أن يقع أثناء نزاع مسلح وأن يشكل خرقًا خطيرًا لهذه القواعد. أما الجرائم ضد الإنسانية فهي لا تُحدّد فقط بالفعل نفسه كالقتل أو الترحيل أو الاضطهاد، بل بالسياق الذي يُرتكب فيه، إذ يجب أن يكون الفعل جزءًا من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد المدنيين، ويُنفذ في إطار سياسة عامة أو نمط متكرر تقرّه دولة أو منظمة. وبذلك يمكن القول إن قصفًا واحدًا لقرية قد يشكل جريمة حرب، بينما القصف المتكرر والمنهجي لقرى عدة بهدف تهجير سكانها ومنعهم من العودة قد يرتقي إلى جريمة ضد الإنسانية.
أمّا في لبنان:
1. النقل القسري أو الترحيل القسري للمدنيين
تحظر المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة النقل القسري للمدنيين أو خلق ظروف تجعل العودة مستحيلة.
ينص نظام روما الأساسي، في المادة 7(1)(د)، على أن الترحيل المنهجي قد يشكل جريمة ضد الإنسانية.
في 26 يناير 2025، حاول آلاف المدنيين العودة إلى قراهم الجنوبية، لكن القصف الإسرائيلي أودى بحياة 22 مدنيًا وأصاب أكثر من 120. وبحسب شهود عيان يمكن توصيف ما جرى بأنه "تهجير ثانٍ"، إذ اضطر الناس للفرار مجددًا خوفًا على حياتهم. ويمكن اعتبار هذه الهجمات أثناء محاولات العودة المشروعة شكلاً من أشكال النقل القسري وفق القانون الدولي. يمكنها أن ترتقي أيضًا إلى جريمة ضدّ الإنسانية إذا اتضح أنها ممنهجة وواسعة النطاق بهدف منع السكان من العودة إلى قراهم.
2. التدمير غير القانوني والمصادرة
تحظر المادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة تدمير الممتلكات إلا إذا اقتضت الضرورة العسكرية القصوى.
بين ديسمبر 2024 ويناير 2025، وثقت "اليونيفيل" عمليات هدم واسعة النطاق لمنازل وحقول زيتون وأنظمة ري في قرى مثل الخيام ومركبا دون وجود اشتباكات ومواجهات مع أي طرف لبناني ما يجعلها عمليات تدمير غير قانونية.
هذا التدمير الواسع النطاق للممتلكات من دون ضرورة عسكرية واضحة يمكنه أن يشكّل جريمة حرب، ويمكن أن يشكّل أيضًا جزءًا من جريمة ضدّ الإنسانية إذا ارتبط بسياسة تهدف إلى إفقار السكان أو تهجيرهم.
3. استهداف المدنيين والأعيان المدنية
تحظر المادتان (51) و(52) من البروتوكول الإضافي الأول استهداف المدنيين أو الممتلكات المدنية إلا في حالة الضرورة العسكرية المباشرة.
في 2 ديسمبر 2024، استهدفت غارات جوية بلدتي طلوسة وحاريص، ما أدّى إلى مقتل 9 مدنيين على الأقل. وبعد أيام، تعرضت بيت ليف ودير سريان للقصف، فسقط 6 شهداء إضافيين. لم تسجل أهداف عسكرية مؤكدة في هذه المناطق ما يشير إلى أن الهجمات استهدفت أعيانًا مدنية بشكل غير قانوني، ما يشكّل جريمة حرب يمكن أن تندرج في إطار جريمة ضدّ الإنسانية إذا اتضح أنها جزء من سياسة أوسع لاستهداف السكان المدنيين.
4. الاضطهاد وحرمان الحق في العودة
تنص المادة 12(4) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حماية الحق في العودة إلى المنزل أو محل الإقامة المعتاد.
ينص نظام روما الأساسي، في المادة 7(1)(هـ)، على أن منع العودة لأسباب تمييزية قد يشكل إضطهادًا.
بعد يوم العودة المقرر في 26 يناير، حُرم العديد من أهالي بلدتي بليدا وميس الجبل من دخول قراهم بسبب وجود القوات الإسرائيلية. سُمح لعدد قليل فقط بالعودة، فيما خشي آخرون من الاعتقال أو التعرض للهجوم. ولا يزال الكثيرون ممنوعين من العودة حتى اليوم. حرمان السكان من العودة إلى قراهم يشكل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي ويمكن اعتباره جريمة ضد الإنسانية (إضطهاد) إذا كان يتم بشكل ممنهج واستنادًا إلى هوية أو انتماء السكان.
5. المضايقات والترهيب بواسطة الطائرات المسيرة منخفضة الارتفاع
يحظر القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان ممارسة الترهيب النفسي أو انتهاك خصوصية المدنيين.
منذ بدء وقف إطلاق النار، نشرت القوات الإسرائيلية طائرات مسيرة منخفضة الارتفاع في سماء جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية والعاصمة والبقاع، تحدث ضجيجاً مستمراً وتراقب المدنيين وأحياناً توجه لهم رسائل مباشرة كما حدث في الجنوب. وهذا شكل من أشكال المضايقة النفسية ما جعل الناس يشعرون بعدم الأمان حتى في منازلهم وأماكنهم العامة. يمكن لهذه الممارسات أن ترقى إلى جريمة حرب بوصفها أعمالًا ترهيبية تستهدف المدنيين.
*محامية في القانون الدولي