السيادة ليست للبيع: قراءة قانونية صادمة في اتفاق مصرف لبنان مع شركة K2 الأميركية

ناتالي ريتا صبّاغ*

في لحظة حرجة من تاريخ لبنان المالي، أقدم مصرف لبنان على توقيع اتفاقية تعاون مع شركة K2 Integrity الأميركية، متذرعاً بالحاجة إلى "دعم تقني" يساعد البلاد على الخروج من اللائحة الرمادية الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF). لكن هذه الاتفاقية، التي أُبرمت في الظل، لا يمكن اعتبارها إلا طعناً مباشراً في السيادة اللبنانية، واستخفافاً بالقوانين المحلية، وتجاوزاً خطيراً لصلاحيات مؤسسات الرقابة الوطنية.

فمن جهة، لم تُنشر تفاصيل العقد، ولا آلية اختيار الشركة الأجنبية، ولا طبيعة البيانات التي ستحصل عليها، ما يُعدّ خرقاً صارخاً لمبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة، ويطرح شبهة تضارب مصالح وهدر محتمل للمال العام، خصوصاً أن مدة العقد (ثلاث سنوات) تتجاوز المهلة المتاحة للبنان للخروج من اللائحة الرمادية (2026)

ومن جهة أخرى، فإن التعاقد مع شركة خاضعة لقانون "باتريوت آكتPatriot Act" الأميركي، يُشكّل تفريطاً خطيراً بالسيادة، إذ يتيح للسلطات الأميركية الوصول غير المقيّد إلى بيانات مصرفية وحكومية لبنانية حساسة دون موافقة أو علم الدولة اللبنانية، ما يمثل انتهاكاً فاضحاً لقانون السرية المصرفية اللبناني، ويصطدم مباشرةً مع قانون حماية البيانات الشخصية رقم 81/2018.

دور النقابات المهنية: شراكة مغيّبة يجب أن تُفَعّل

في هذا السياق، لا يمكن لنقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان أن تبقى في موقع المتفرّج. فبموجب المادة الخامسة من قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44/2015، يُلزم القانون كل خبير محاسبة ومحامٍ ومزاول لمهنة مالية أو قانونية برصد أي عملية مشبوهة والتبليغ عنها إلى هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، كما يُلزم النقابات المهنية بمتابعة التزام أعضائها بهذه المهام الحساسة.

لذا، يُفترض على نقابة المحامين ونقابة خبراء المحاسبة أن تبادرا إلى:

وضع نظام داخلي يُلزم أعضاءهما بالامتثال لقواعد مكافحة غسل الأموال والشفافية المالية.

تقديم رأي قانوني صريح بشأن مدى مشروعية اتفاقية مصرف لبنان مع K2، ومدى انسجامها مع التشريعات اللبنانية النافذة.

رفض أي عقد أو إجراء يمسّ بالسيادة أو يعرض المهن الحرة للمساءلة القانونية أمام سلطات أجنبية.

إن أي تقاعس في هذا الإطار يُعتبر تواطؤاً ضمنياً مع مسار تسليم القرار المالي اللبناني إلى جهات خارجية.

الجمعيات تحت المجهر: لا إصلاح دون تدقيق

من بين أبرز التوصيات التي وردت في تقرير MENAFATF الخاص بلبنان، دعوة واضحة إلى فرض الرقابة المالية والتدقيق المنتظم على الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، باعتبارها من أبرز قنوات التلاعب والتمويل غير المشروع في الاقتصاد غير الرسمي.

ورغم وضوح هذه التوصية، لا تزال غالبية الجمعيات في لبنان تعمل دون أي تدقيق حسابي ملزم، ودون الإفصاح عن هياكلها المالية أو مصادر تمويلها، في ظل غياب آليات رقابة فعلية من وزارة الداخلية أو وزارة المالية.

إن التدقيق الإلزامي على الجمعيات، عبر مكاتب محاسبة مرخصة وتحت إشراف نقابة خبراء المحاسبة، لم يعد خياراً بل شرطاً دولياً لخروج لبنان من لائحة العار المالية.

السيادة أولاً… لا للتعاقدات المشبوهة

إن خطورة ما يحصل لا تكمن فقط في طبيعة الشركة الأجنبية، بل في النهج الذي يختزل الإصلاح باتفاق تقني مدفوع الأجر، ويتجاهل الإصلاح البنيوي الحقيقي المتمثل في:

استقلال القضاء ومحاسبة الفاسدين وإسترداد الأموال المنهوبة،

ضبط التحويلات غير الشرعية وتدقيق حسابات ال NGOs،

التعاون مع نقابتي المحامين وخبراء المحاسبة المجازين في لبنان،

تحديث مصرف لبنان ببرامج الذكاء الإصطناعي لتدقيق وكشف عمليات تبييض الأموال قبل حدوثها،

وإطلاق سجل وطني للمالكين الحقيقيين للشركات.

من هنا، فإن إلغاء هذه الاتفاقية المشبوهة بات واجباً وطنياً، وعلى البرلمان تشكيل لجنة تحقيق فورية لمحاسبة الجهات التي وقّعت دون الرجوع إلى القوانين.

فسيادة الدولة ليست بنداً في اتفاقية تقنية، وبيانات اللبنانيين ليست سوقاً مفتوحة للاستثمار السياسي. لا إصلاح بلا محاسبة، ولا حوكمة بلا قانون، ولا نهوض بلا حماية الكرامة السيادية.

محقق في جرائم الاحتيال المالي*

منشورات ذات صلة