عقولنا هي جائزة الحرب: لماذا القصف ليلة العيد؟

في الحرب الإدراكية

بتول الغداف*

منذ أن انسحبت "إسرائيل" من لبنان في أيار 2000، لم تتوقف عن دراسة دقيقة لمجتمعه. ومع تطوّر ترسانتها العسكرية، شهدت أدواتها النفسية والإدراكية تطورًا موازيًا. فقد كثّفت "إسرائيل" من استخدام أساليب الحرب النفسية، والحرب الإدراكية تحديدًا، في لبنان، لا سيما منذ اندلاع حرب أيلول 2024. الحرب الإدراكية  مجال دراسي قائم بحدّ ذاته، يركّز على التأثير في وعي الأفراد والجماعات وتوجيه إدراكهم للواقع، أي التأثير على "كيفية" التفكير. والمعركة اليوم لم تعد تقتصر على القصف والاشتباك الميداني، بل باتت معركة على هندسة الوعي الجماعي، تُخاض بأسلحة تتجاوز الصواريخ والرصاص لتشمل التوقيت والإشارات والكلمات المدروسة.

من علم النفس إلى ساحة المعركة

تنصّ وثائق الناتو (مثل وثيقة عام 2020 عن Cognitive Warfare) على أن الإدراك هو "ساحة المعركة الأهم" في المستقبل، وأنه "لا يمكن تركه للعدو".

وتشير وزارة الدفاع الأميركية في دراساتها إلى أن "أكثر الجيوش فاعلية في القرن 21 هي تلك التي تستطيع احتلال العقول قبل احتلال الأرض."

تسمي وثائق الناتو والجيش الأميركي هذا النوع من الحروب بـ: (Shaping the Cognitive Battlespace) "تشكيل ساحة معركة الإدراك" أي استخدام أدوات غير مباشرة لصياغة وعي الشعوب، والتحكّم بتفاعلهم مع الأحداث من دون دخول معركة مباشرة ومن دون حتى التعبير المباشر. 

في علم النفس، تُعرّف التروما كدورة تمرّ بالمراحل التالية:

هدوء 🡨 صدمة 🡨 ذعر 🡨 تعافٍ مؤقت 🡨 صدمة من جديد

لكن حين تُعاد هذه الدورة بشكل متعمّد ومكرّر على سكان منطقة معينة، تتحوّل إلى تروما جماعية، تُعيد تشكيل طريقة تفسير الناس لما يحصل حولهم، وتُبقيهم في حالة ترقّب دائمة لا نهاية لها. مع الوقت، يمكن أن تُرى آثار هذه التروما من خلال ردود فعل الناس وعدم قدرتهم على الصمود والتفاعل المتزن.

استراتيجية التوقيت 

خلال الحرب السابقة، اعتاد المتحدث باسم جيش الاحتلال على نشر تهديداته خلال النهار. ثمّ تغيّر النمط: باتت معظم رسائله تُنشر بين الساعة العاشرة ليلًا ومنتصف الليل، ثم غدا ينشر تهديداته قبيل الفجر، أي في أكثر الأوقات هشاشة للنفس والجسد.

هذا التغيير ليس صدفة. الهدف هو ضرب الإحساس بالزمن الآمن. لم يعد هناك وقتٌ للنوم، ولا وقتٌ للخروج، حتى "الهدوء" صار مقلقًا. هذا يُفضي إلى حالة من اللايقين الدائم، وهي واحدة من أكثر أدوات الحرب الإدراكية فاعلية، إذ تدفع الناس إلى حالة طوارئ دائمة، تُرهق الجهاز العصبي وتؤدي في النهاية إلى انهيار الثقة بالنظام، وبالواقع، وحتى بالنفس.

واستمرت هذه الاستراتيجية الى يومنا هذا، فاختيار ليلة العيد، أو ذروة وقت المدرسة والعمل لم يكونا صدفة. فلا تُستهدف المناطق فقط، بل يحاول العدو استهداف هذه الأوقات بالتحديد أيضًا، لما تحدثه من تفكيك للإيقاع الداخلي للمجتمع. الرسالة التي تُزرع ليست فقط "نحن نستطيع أن نؤذيكم"، بل: "لا يوجد وقت للفرح. لا ملاذ. لا عيد. لا خصوصية. لا يوجد روتين. لا برنامج يومي طبيعي. لا أمان ولا استقرار".

ماذا تحقق هذه الاستراتيجية؟

  • الإنهاك النفسي التراكمي، يضعف القدرة على التحمّل والصمود.
  • تفكيك الروتين اليومي: الدوام الدراسي لا يستقر، المساجد تُقفل.
  • الخوف الداخلي المعزول: شعور متزايد أن لا أحد يستطيع حمايتنا لا الدولة، ولا المقاومة.
  • تآكل الثقة: بالإعلام، وبالمؤسسات، وحتى بالناس بعضهم ببعض.

استراتيجية التكرار المقصود: 

ومن بين أدوات الحرب الإدراكية الخفية، يبرز التكرار المتعمّد لنفس الرسائل والمصطلحات، التكرار ليس فقط تكتيكًا بل استراتيجية إدراكية مركّبة هدفه أن تُزرع بعض المصطلحات في العقل الجمعي وتُستقبل وكأنها حقيقة قائمة. فهو يخلق نمطًا إدراكيًا ثابتًا يبرمج مجتمعًا على توجيه استجابة لا واعية، ويحوّل الكلمات إلى توجيهات تنفيذية تلقائية.

ومثال على ذلك رسائل المتحدث باسم جيش الاحتلال ونشره للتهديدات على منصة اكس. فهو يستخدم هذه الآلية بحذافيرها:

  1. رسالة ثابتة: العبارة لا تتغير (سنقصف، قصفنا، تحذير)
  2. وسيط متكرر: منصة اكس
  3. توقيت مدروس: الرسالة تُنشر قبيل الضربات الفعلية، أو في أوقات نفسية حسّاسة.
  4. رسالة مزدوجة: تحذير + تهديد + تذكير بالهيمنة (خطر دائم).

فعالية التكرار المتعمّد في الحرب الإدراكية لا تكمن فقط في بساطة الرسائل، بل في قدرتها على تشكيل استجابة ذهنية شبه تلقائية. عندما يُعاد استخدام العبارات نفسها مرارًا – مثل "سنقصف" أو "ابتعدوا 500 متر" – تُزرع في الوعي الجماعي وتُصبح مألوفة لدرجة أن الناس يتفاعلون معها دون تفكير: الخطر بات مفهومًا مسبقًا، والإشارة أصبحت كافية وحدها. مع الوقت، تُستقبل هذه الرسائل كما لو كانت حقائق ثابتة، لا تُسائل ولا تُراجع، بل تُصدّق فورًا، وهو ما يؤدي إلى نوع من الانقياد الإدراكي العام. الأثر لا يتوقف هنا، فالتكرار يُبهم الحدود بين التهديد المؤكد والمعلومة الزائفة؛ كل ما يُقال بنفس الصيغة يبدو صحيحًا، ولو كان غير دقيق. وهكذا تنشأ حالة من التأهب الدائم، حيث كل تكرار جديد يُعيد تفعيل استجابة داخلية مشروطة بالخوف والقلق، ويُبقي الناس في حالة استنفار مزمن، يتآكل فيها الإحساس بالزمن، وتضعف القدرة على التمييز أو المقاومة.

الهدف هو البرمجة الإدراكية، أي ترسيخ كلمات محددة في اللاوعي الجماعي، لتصبح جزءًا من تفسير الناس لما يحصل دون أن يدركوا ذلك. مرة على مرة، تصبح الناس تخشى "الذريعة" التي يدعيها الكيان لضرب بيوتهم.

في الختام

في مواجهة حربٍ لا تُخاض فقط بالصواريخ والرصاص، بل بالأوقات والإشارات والكلمات، يصبح الوعي نفسه ساحة معركة. لم يعد المطلوب فقط النجاة من القصف، بل النجاة من أثره النفسي والإدراكي الممتد. فحين تُعاد برمجة العقل الجماعي ليعيش في ظل التهديد الدائم، يُصبح كل شيء -حتى الصمت- أداة ترهيب. لذلك، فإن فهم أدوات هذه الحرب، من التوقيت المدروس إلى التكرار المقصود، هو الخطوة الأولى في تفكيكها. أما الخطوة الثانية، فهي بناء مقاومة داخلية جماعية، تبدأ من استعادة الإيقاع، وإعادة تعريف الخوف، والتأكيد على أن الوعي - وإن حوصِر - يمكن أن يكون الجبهة الأقوى.


*ماجستير في الشؤون الدولية، باحثة في مجال الاستعمار ومناهضة الاستعمار

[email protected]



منشورات ذات صلة