محمد الجنوبيّ..
ربما كانت يده خارج شباك السيارة، يداعبها هواء حزيران بينما يقود باليد الأخرى مقودها ببطء. ربما كانت عيناه متسمّرتين على المرآة، وفيها مُختَصرُ العمرِ. عيتا الشعب، قريته التي داس ترابها لآخر مرّة، ربّما ترك فيها بعض أثَر.. وربّما مرّ بروضةٍ للشهـ.ـداء هناك، فزاره طفل وأهداه وردة.. هل تذكرونها تلك الوردة؟!
كثيرٌ من الـ"رُبّما" مع الرحلة الأخيرة لمحمد سرور، الأب الجنوبيّ العائد على طريق دبل، حيث استهـ.ـدفته مسيّرة إسرائيليّة أدّت إلى اسـ.ـتشهـ.ـاده. أما الصور الآتية من موقع الشهادة، فَتشي ببعضِ الحقائق، وفيضٍ من التساؤلات أيضًا.
لا نعرف عن محمد الكثير، سوى أنه عصر الأول من حزيران 2025 أصابه صـ.ـاروخ إسرائيلي من مسيّرة وهو يقود سيارته "الرابيد" على طريق دبل عائدًا من عيتا الشعب. ونشرت الصحافية آمال خليل على حساباتها على منصات التواصل صورًا لمحتويات سيارته.. بعد القصـ.ـف.
فلماذا نتحدّث عنه تحديدًا؟
قد يخال القارئ أن في "الرابيد" أحمر اللون، صـ.ـاروخًا، أو قذائــف أو ذخيرة حربية رصدتها مسيّرات الـ.ـعـ.ـدو فأقدمت على جريمتها. لكن الأمر مختلف. محمد يشبه كثرًا من الجنوبيين الذين يقتـ.ـلون بصمت على طرقات جنوب لبنان، بصـ.ـو اريخ إسرائيلية، من دون إدانات رسمية من الدولة اللبنانية، من دون شكاوى من الخارجية الى مجلس الأمن، ومن دون أية إجراءات رادعة. فلماذا لا تدافع الدولة عن محمد ورفاقه؟ وماذا يحمل هؤلاء معهم في سياراتهم؟
أظهرت الصور، أن محمد كان قد حمل معه ربطة خبز، وقطعًا متفرّقة من أدوات المطبخ، تلك التي لا تنتمي إلى الـ"براندات" العالمية: "طنجرة بدون غطاء، ووعاء وسكّين..". ربما كانت زوجته ستحتاجها في مطبخها المؤقت بعدما هدم جيش الأعداء مطبخها الأساسي في عيتا الشعب.. وكان في "الرابيد" أيضًا، "أرجوحة" بلاستيكية قديمة، معلّقة بحبال، ربما كانت له طفلة تنتظره، وعيناها الصغيرتان متسمّرتان نحو الطريق، لعلّ الصـ.ـاروخ الإسرائيلي لا يطفئ أملها بوالدها، والأرجوحة.
ماذا عن والدته؟ هل دلّها قلبها إلى ختام ثواني العمر مع ابنها؟ يبدو أن لهذا السؤال جوابًا هذه المرّة. يكتب حسين سرور ابن عيتا الشعب على منصة "اكس" بعد اسـ.ـتشهـ.ـاد محمد: "كنا برفقة أم الشهــ.ـيد حسين خارجين من روضة شهـ.ـداء عيتا، وكأنما قلبها دليلها
قالت لنا: عميقولو في استهداف، شفتولي ابني محمد؟ عمدقلو مش عميرد. اردنا ان نهدئ من روعها "بكون فش ارسال يا حجة" فتجيب ثانية "مبلا من شوي دقيتلو وقلي انه مشي وقلتلو ينزّل معو طنجرة الملفوف. محمد ابنها شهــ.ـيدا اليوم".
ها قد عرفنا "سر" ما يحمله. كان معه آخر ما صنعته يدا أمٍّ جنوبيّة لرحلةِ ابنها التي ما خالتها قصيرةً حدّ التلاشي.. "شفتولي ابني"؟ سيعود محمد إلى أمه، وإلى تراب عيتا.. لتبكياه "دمعتين ووردة"..
محمد، هو كلّ جنوبيّ سرقت "إسرائيل" حياته مُعتـ.ـدية عليه في أرضه وبيته، وتخلّت "الدولة" عنه، متنازلة عن المطالبة بحقه وعن الدفاع عنه.